على بصيرة

حصــــاد فــلــــذات الأكبــــــاد

أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/

عندما يَصْفَرُّ وجه الحقول، إيذانا بدنوّ ساعة الحصاد، وتهُب رياح الصيف عنوانا بتصبب عرق الأبدان، فتدور جرارات الفلاحين وسط التهليل، وتدب حركة الأقلام، ويسمع لها صليل، وتنبعث من نتائج الامتحانات الزغاريد وبعض العويل.
ذلك هو ما يأتي به الصيف في كل الحقول، ولدى كل العقول، لأنه يعتبر أهم الفصول إنتاجا، وأكثرها فرحا، ومرحا وابتهاجا.

إن الصيف في بلادنا بالذات هو إضافة إلى كونه فصل الامتحانات، وزمن جني الثمرات، هو عقد الولائم والأعراس والمناسبات.
إن ميزة الصيف عن باقي الفصول أنه موعد الفلاّح مع جني الثمار في الحقول، وموعد الطالب مع كسب النجاح في العقول، وموعد الشباب مع بناء الأسر على أساس الأصول.
من هذه الأهمية يأتي اهتمامنا اليوم بحصاد فلذات الأكباد، والاستماع إلى دقات قلوب الآباء، والأمهات، والبنات والأولاد.
في هذه المواعيد تعود بنا الذاكرة إلى ما بذله الأبناء والبنات، في زمن الشتاء، مستهينين بكل أنواع البرد والثلوج والأنواء.
اليوم تبيض وجوه، وتصفر وجوه، وتسود وجوه، فيميز الله بالامتحان الجاد من الكسول، والفاضل من المفضول، والثابت من المفصول.
من هنا تبدأ أهمية المدرسة في بناء الأجيال، وقيمة المنظومة التربوية في صقل العقول، وفتح آفاق الآمال.
وكم تبدو لنا غالية وعالية رسالة المدرسة في إخصاب المواهب، وبذل التضحيات لتحقيق المكاسب، كما نكتشف بهذه المناسبة خطورة التهاون في العناية بالمعلم، والمتعلم، في بناء المجتمع الفاضل المتقدم.
هكذا يتجلى لنا أنه بالامتحان تقاس مكانة التلميذ من الذكاء، وقدرة الأولياء على البذل والعطاء، وصلابة المنهج المدرسي في فتح آفاق التنمية والبناء. والجزائر وطننا العزيز، وهو يكابد معاناة معركة التبعية، والانتصار على مختلف أنواع الفساد والمحسوبية، والتصدي لدعاة الانسلاخ من الهوية والتحلل من القيم الوطنية والأخلاقية، مدعو إلى فك هذه الإشكالية.
يقال إن أخطر لص في الحياة، هو سارق الزمن، وهل هناك حقا من هو أخطر من سرقة مستقبل الأجيال، والزج بهم في متاهات الغثائية التي تنأى بهم عن أفضل الأقوال، وأنفع الأعمال، إلى تقليد الوافد من الأفكار والإيديولوجيات اللاإنسانية.
نقول هذا ونحن نستعرض تجارب بلادنا في المنظومة التربوية، فتتراءى لنا التجربة الباديسية، المتميزة بأصالتها، وعراقتها، وأخلاقيتها، وتفاني معلميها ومتعلميها، لتقديم النموذج الأمثل لصنع المستقبل.
ثم توالت على أجيالنا الصاعدة تجارب منها الواعدة، ومنها الفاسدة، فانعكس ذلك كله على مستوى التحصيل، وعلى تفشي الفكر الدخيل، وإشاعة العنف الأعمى الوبيل.
إن المرء ليصاب بالذهول والذهال عندما يلاحظ في بعض تجاربنا التربوية من سولت له نفسه الانتقاص من الثوابت الوطنية، والاعتداء على القناعات الدينية، والجرأة على البديهي من القيم الإنسانية، مع أن الحق الثابت الذي يكفله الدستور ويسلم به الآمر والمأمور، أن ما يحتاجه الجيل الصاعد في جزائرنا الجديدة، هو حق المتعلم في مدرسة أصيلة الانتماء، علمية الإقتداء، إنسانية الاهتداء، وطنية الاصطفاء.
إنها المدرسة التي تصقل اللسان، وتصحح الأبدان، وتعمق قيم الإنسان وتهدي عقل الجيل –عقديا- إلى خير الأديان.
وإن رأس مال المدرسة في كل هذا من الناحية الإنسانية هو المعلم، ومن الناحية الثقافية الكتاب ومن الناحية المقاصدية المنهج.
ولكي نضمن سلامة هذه الدعائم الثلاثة لابد من إيجاد الضامن لها، وإن الضامن لها هو من نأتمنه على الإشراف على المنظومة التربوية، ومن هنا فلابد من إسناد شأن التربية والتعليم إلى الراسخين في العلم والتربية، والراسخين في الدين والوطنية، فنضمن من خلاله عملية بناء مدرسة جزائرية المحتوى والعنوان عربية الحضارة واللسان، وعلمية المنهج والبنيان، وأخلاقية القيمة والإنسان.
إن المهندس الذي ستوكل إليه هذه الرسالة النبيلة، هو من سيعي حقيقة أمسنا الذاهب بلا فائدة، ليبنى على أنقاضه جيلنا المعاصر الذي يتحلى بأفضل القيم السائدة.
ولنأخذ العبرة مما تعلمناه من تراثنا، من أن العلم هو بمنزلة الشجرة، والعمل بمنزلة الثمرة، وأن الغرض من الشجرة المثمرة هو ثمرتها، أما شجرتها بدون الاستعمال، فلا يتعلق بها غرض أصلا.
وقول شعرائنا القدامى:
بقية العمر عندي ما له ثمن وإن مضى غير محمود من الزمن
يستدرك المرء فيها ما أفات ويحي ما أمات، ويمحو السوء بالحسن
في هذه الأجواء من المشاعر التربوية نستعرض اليوم حصاد فلذات أكبادنا، ونقوم بعملية تشخيص تجاربنا التربوية وفيها الغث وفيها السمين، ولتكن لدينا الشجاعة، في التخلي عن كل ما هو غث، ولنحشد الإمكانيات لتقوية التجارب الناجعة.
ذلك أن خير استثمار تبنته أمم قبلنا، فنجحت، هو الاستثمار في المعلم، ولنا في اليابان أسوة حسنة.
ولنتمثل في فضل العلم بقول الإمام الشافعي:
رأيت العلم صاحبه كريم ولو ولدته آباء لئامُ
وليس يزال يرفعه إلى أن يُعظِّم أمره القوم الكرام
ويتّبعونه في كل حال كراعي الضأن تتبعه السوام
فلولا العلم ما سعدت رجال ولا عرف الحلال ولا الحرام

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com