الإسلام الايديولوجي…

يكتبه د. محمّد قماري/
جرت في السنوات الأخيرة في بحر الفكر مصطلحات كثيرة، تسعى كلها إلى تصنيف وتوصيف حركة المسلم المعاصر وهو يسعى لاستعادة دوره على مسرح التاريخ، منطلقا من تجربته التاريخيّة (تحت لواء الإسلام)، ومحاولة تنزيله على واقع الحياة.
وتلك (الحركة) لم تكن شيئًا واحدا، فهي حركات بعضها يرفع شعار الروح، فتجد من يصفها بـ(الإسلام الروحاني)، وبعضها لجأ إلى القوة والعنف، فوصفت بـ(الإسلام الجهادي حينا) و(الإرهاب) أحيانا، وبعضها تبنى منهج العمل السياسي، ومعها ظهر مصطلح (الإسلام السياسي)، وبعضها لا يرى مخرجًا إلا بالعودة إلى اجتهادات السلف، فتسمى بـ(الأصولية) أو (السلفية)، وكل تلك الفصائل وأخرى يجد من نصوص الدين ما يعزز به ما ذهب إليه وقد يتعسف في تطويع نصوص منه تسوّغ مذهبه…
والحقيقة التي يجب عدم اغفالها، أنه على الجهة المقابلة (آلة جهنمية)، تعمل وفق أخبث أساليب الصراع الفكري والتضليل الثقافي في نحت تلك المصطلحات والترويج لها، وربما تبناها أصحاب تلك المدارس دون روية ولا تمحيص، جاعلين منها (لواء) يسيرون تحته في غفلة تامة عن عامل (المغايرة) الخطير، إذ كل صاحب لواء يقصي من يخالفه، ومن يخالفه يعامل بوصفه ضالا عن الدين نفسه لا عن مذهبه هو، وفهمه هو ورؤاه هو!
وتلك هي لعبة الصراع الفكري المحببة والمحبذة: (دع الفخار يكسر بعضه)…وكم كسر الفخار بعضه، وكم من جهود ضاعت في جزئيات ألهت الأمة عن قضية التنميّة وحسن عمارة الأرض، وفتنت غير المسلمين وأبعدتهم عن دين يدعو إلى (قول التي هي أحسن) و(القول اللين) و(الجدال بالتي هي أحسن)…
ولعل من أخطر تلك المصطلحات، مصطلح (الإسلام السياسي) ومن انضووا تحت مسماه، فالسياسة هي أرحب المجالات لتنوّع الرؤى والآراء، وهي نسبيّة في عالم التنظير وعالم الفعل، وحولها تدور المؤامرات والمكايدة، لأنها شهوة أصيلة من شهوات بني البشر، أطلق عليها علماء التربيّة قديما شهوة (حب الرئاسة)، والخطر يكمن في تسويغ شهوات البشر باسم نصوص الدين، بدليل تنوّع الفصائل تحت هذا الشعار نفسه…
قد يقول معترض: هل معنى ذلك تحييد هؤلاء جميعا، كما يريد بهم خصومهم من (العلمانيين)، ونمضي في طريق منعهم وفقا لقول القائل: (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين)؟
وعند هذا المنعرج نجد أنفسنا أمام خط فاصل رفيع، يجب معه الفصل بين حركة البشر واجتهاداتهم ورؤاهم والمحكم من نصوص الدين، فإذا كان من الظلم منع (المجتهد) في السياسة منطلقا من نصوص الدين، فمن الظلم أيضا للدين نفسه أن نحمله هزائم واخفاقات تلك الرؤى والاجتهادات، فالذي لا يقتنع بتلك الرؤى ليس بالضرورة متنكرا للدين أو خصما له، فقد يكون كما هو الشأن في العمل السياسي خصما لفلان أو لرؤيته في السياسة…
وفي الأسبوع الماضي جاء على لسان الرئيس تبون في تصريحات صحفية، مصطلح بدا لي جديدا، لم أسمع به من قبل، هو مصطلح (الإسلام الايديولوجي)، وهو مصطلح جدير بالتأمل ويمكن أن يكون بديلاً عن كثير من المصطلحات الشائعة، وهو يقترب من مصطلح (الفكر الإسلامي) بمعنى اجتهادات بشر فكرية من خلال نصوص الإسلام، وهي اجتهادات بشرية تحتمل الصواب والخطأ، كما تحتمل التيه والرشاد…
وإن كان الرئيس قد أكد على رفض (الإسلام الايديولوجي) في السياسة منطلقا من تجارب سابقة التبس فيها (الايديولوجي) البشري بالإسلام (الوحي)، فإن الواجب على أبناء الحركة الإسلاميّة أن يسعوا هم قبل غيرهم في تكريس ذلك الفصل، وأن لا يشعروا بالغضاضة إذا أعرض بعض الناس عن (ايديولوجيتهم) وإن (اجتهدوا) في تبني مرجعية الإسلام، فأغلب العمل السياسي نسبي وخاضع لاجتهادات البشر وعزائم البشر…
إن أكبر خدمة للإسلام في هذا العصر تتمثل في تكريس (مقصد الحرية) وتعزيز العمل به، وتسويقه وجعله دارجا بين الناس، فالحرية للجميع وحمايتها من كل ما يعكّر صفوها، أو يحد من سريانها بين البشر هي باب العودة إلى الفطرة، وتحير الضمائر من فرض الرؤى تحت أي مسمى خطر على الدين وعلى الدنيا معًا…
إن المسلم المعاصر لا يحتاج إلى كثير من الدروس والمواعظ التي تخاطب خمول روحه، بل يحتاج إلى من يوقد فيه الفاعليّة الحضارية التي تزيل عنه مركب الدونيّة، وتجعله يثق في نفسه ويثق في قدرته على الانجاز والحركة التي تحقق له الأمن الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والصحي، تجعل منه (شاهدا) على الناس بالقدرة على الحضور في كل مناشط الاقتصاد والسياسة والاجتماع والصناعة والبحث العلمي…