حوار

المجاهد والباحث في التاريخ الإسلامي والتراث الأمازيغي، محمد الصغير بلعلام للبصائر:

 

 

“الإمام ابن معطِ الزواوي وأبو الفضل المشدالي وآخرون كانوا سادة العلم في زمانهم”
أيـــن إنتـــاج علمائنـــا؟ أين ثقافتنا الفكرية؟

أشار المؤرخ والباحث في التاريخ الإسلامي والتراث الأمازيغي، محمد الصغير بن لعلام، إلى أبحاثه في التراث الأمازيغي وما توصل إليه من آثار لعلماء منطقة الزواوة ودورهم في خدمة العلم والفكر العربي والإسلامي في منطقة المغرب العربي ومشرقها، فمن هم هؤلاء العلماء؟ وما هي آثارهم؟ وما هو سبب إهمال كل هذا الجزء الكبير من التراث العلمي الجزائري؟ ولماذا تراث علمائنا بقي ولا يزال مهمشا عند مقارنته بتراث المشارقة؟ وعودة إلى موضوع وإشكال كتابة اللغة الأمازيغية، فمن الناحية العلمية ما هو الحرف الأنسب لكتابتها: هل هو الحرف العربي أو اللاتيني أو بخط التيفيناغ؟ وعن الثورة التحريرية ودور رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين؟ أسئلة وأخرى وبالتفصيل أجابنا عنها المجاهد والمؤرخ محمد الصغير بلعلام في حوار جمعه بجريدة البصائر الجزائرية.

 

حاورته: فاطمة طاهي/

 

نبدأ بالسؤال الكلاسيكي من هو محمد الصغير بن لعلام؟
-محمد الصغير بن لعلام من مواليد 23 جويلية 1932م الموافق لـ 5 ربيع الأول 1351هـ ببلدية بني ورثيلان، أول خطواتي التعليمية كانت في جامع القرية، حيث تعلمت القراءة والكتابة وحفظت القرآن الكريم وعمري لم يتجاوز 16 سنة، كما أممت بالنّاس في صلاة التراويح وأنا في الثالثة عشر من العمر، وذلك في قريتنا بزاوية فريحة ببني ورثيلان، هذه المنطقة المشهورة بالزاوية التي أسسها مؤسسها سيدي يحي بن موسى في القرن التاسع الهجري، والتي تعتبر ثالث زاوية تأسست بمنطقة القبائل الصغرى بعد سيدي محند أويحي في أمالو وسيدي احمد يحيي العيدلي في ثمقرا، ثم في سنة 1945م التحقت بزاوية بن سحنون في ثغراسث بـ إغزر أمقران، وفي سنة 1946م انتقلت إلى زاوية ثمقرا ومكثت فيها خمس سنوات، حيث تتلمذت على يد الشيخ الطاهر آيت علجت، الذي علمني مبادئ العلوم العربية والشرعية، وفي سنة 1950م التحقت بمعهد عبد الحميد ابن باديس وتحصلت على الشهادة الأهلية عام 1954م، ثم توجهت إلى تونس لإكمال دراستي، ثم التحقت بجيش التحرير الوطني رفقة العديد من الطلبة ومكثت تقريبا سنتين في الجبل، ثمّ عدت إلى تونس لإكمال دراستي بأمر من العقيد سي عميروش، وتحصلت على شهادة التحصيل «البكالوريا» من جامع الزيتونة سنة 1958م، وبعد موافقة جيش التحرير الوطني توجهت لإكمال الدراسة في جامعة دمشق، والتحقت بكلية الآداب في قسم اللغة العربية وآدابها، وتحصلت على شهادة الليسانس سنة 1965م في اللغة العربية من جامعة دمشق، وعدت إلى الجزائر سنة 1965م، وبداية مشواري الوظيفي في الجزائر كان بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف الذي كان على رأسها آنذاك المرحوم سي العربي سعدوني والذي كان من أساتذة مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وتخرج من الزيتونة، وقد أسند إليّ الإشراف على مجلة ثقافية شهرية وهي مجلة «القبس» مع المرحوم التلي بن الشيخ حيث كنت نائبا لرئيس تحريرها، وبقيت فيها مدة خمس سنوات، ثمّ عُينت مديرا للشؤون الدينية والأوقاف، والجدير بالذكر أنّ الشيخ مولود قاسم أراد تطبيق مخطط الشيخ عبد الحميد ابن باديس في إحياء التعليم الديني واللغوي في الجزائر عن طريق ثانويات التعليم الأصلي وعن طريق فتح المساجد للتدريس كما كانت من قبل، حيث كانت المساجد سابقا جامعة ومدرسة فكان الأئمة مكلفين بتعمير المساجد وبتقسيم أوقاتهم لتدريس الكبار والصغار ومحو الأمية وفي تقديم التوجيهات الدينية.
وفي سنة 1975م ولأسباب خاصة، غادرت وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية والتحقت بوزارة الداخلية حيث عينت رئيسا للدائرة وبقيت في هذا المنصب حوالي 16 عاما، وقد عملت رئيسا للدائرة في خمس ولايات: الجلفة، تيزي وزو، البليدة، معسكر وأخيرا في غرداية ثمّ أحلت إلى التقاعد عام 1990م.
ما الذي دفع بكم إلى البحث في تراث منطقة الزواوة؟
-سجلت في الدكتوراه سنة 1973م حول أحمد بن أحمد بن عبد الله أبو العباس الغبريني وكتابه: «عنوان الدراية في من عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية» وهذا الكتاب مهم جدا للتاريخ الثقافي الجزائري وخاصة التاريخ الثقافي لمنطقة الزواوة، حيث عدّ أبو العباس الغبريني أكثر من 170 عالما في بجاية من كبار العلماء آنذاك في العالم الإسلامي ومنهم مجموعة كبيرة ممن ذكرتهم في كتابي: «علماء من زواوة»، وبكل أسف شديد لم أخطّ حرفا واحدا في هذه الرسالة.
فبعد التقاعد رجعت إلى القراءة من جديد وقررت أن أقوم بدراسة الموضوع الذي سبق وأن عزمت على الانشغال عليه منذ أن كنت طالبا في جامعة دمشق، وهو البحث عن التراث الجزائري، حيث وكما وضحت في مقدمة كتابي «علماء من الزواوة» أنه في أول عام دراسي لي في جامعة دمشق خلال العام الدراسي 1960/1959م لم أجد في القائمة التي قدمت لنا من الكتب المقررة والمراجع إلاّ اسماً مغاربياً واحدا وهو ابن رشيق المسيلي صاحب كتاب «العمدة» والذي ينحدر من ولاية المسيلة، وقد نسبه إخواننا التونسيون إليهم وسموه ابن رشيق القيرواني، فكان الوحيد من المغاربة الذي وجدته في القائمة الطويلة، فسألت أستاذي الدكتور شكري فيصل، هل الأمة المغاربية عقيمة قال: «لا تراثكم نائم تحت الأطلال عليكم نشره إذا أردتم ذلك ولا تنتظروا منا نحن المشارقة أن ننشر تراثكم»، فأعطاني مثالا على ذلك بكتاب: «خريدة القصر وجريدة العصر» الأصبهاني عماد الدين محمد بن محمد، قال لي: هذا الكتاب هو أهم كتاب تم تأليفه في تاريخ الأدب العربي في العصور القديمة، قال: «إن المصريين نشروا القسم الخاص بمصر والسوريين كذلك حيث أنا شخصيا نشرت القسم الخاص بالشام والعراقيون نشروا القسم الخاص بالعراق، أما القسم الخاص بالمغاربة فلا يزال نائما إلى يوم النّاس هذا»، وبالتالي لما قال لي: «أنشروه ولا تنتظروا منا أن ننشر تراثكم» هذه الجملة بالذات كانت ترن في ذهني طوال حياتي الفكرية، فكان هدفي أن أنشر ما استطعت حول التراث الجزائري عامة، من دون تعيين المنطقة أو الزمان، ولما بدأت أراجع أمهات المراجع المشرقية، وللأسف علماؤنا القدامى لم يكونوا يهتمون بالتأليف وقد قلت هذا أيضا في مقدمة كتابي بأن المغاربة عامة والجزائر خاصة اهتموا بالتعليم لكن لم يهتموا بالكتابة حتى الإمام عبد الحميد ابن باديس رحمه الله لما سئل عن سبب عدم تأليفه أجاب قائلا: «نحن نؤلف الرجال»، فعلماؤنا منذ العهد القديم كانوا يؤلفون الرجال ليحملوا المشعل بعدهم، لدينا كبار العلماء في بجاية ولم يؤلفوا إطلاقا من أمثال: ناصر المشدالي، أبو الفضل المشدالي، أبو العباس أحمد الإدريس البجائي، إبراهيم الأصولي البجائي وغيرهم.
ولما راجعت أمهات الكتب والمراجع المشرقية تفاجأت من كثرة أسماء الزواويين الذين كانوا بالعشرات ككتاب الضوء اللامع للسخاوي، ففي القرن التاسع نجد حوالي 45 عالما زواويا و20 بجائيا وحوالي 15 جزائري «العاصمة»، فاندهشت وانبهرت بالأسماء الزواوية الذين كانوا كبار علماء وأسياد زمانهم ليس في بجاية أو في الجزائر بل في المغرب والمشرق العربي.
وقررت أن أحصر البحث حول علماء الزواوة، وقد كلفني ذلك ست سنوات من البحث، صدرت الجزء الأول سنة 2013م وجزئين سنة 2016م والطبعة الثالثة منذ عامين فقط، هذا الكتاب ليس قاموسا أو معجما عن علماء الزواوة، اخترت فقط عينات من هؤلاء العلماء الكبار الذين أنجبتهم منطقة الزواوة والتي أصبحت ما يعرف الآن بمنطقة القبائل سواء الصغرى أو الكبرى، وفرنسا هي التي سمتها للأسف بالقبائل، فقبل الاستعمار لم يكن هذا الاسم موجودا، حيث سمتنا بالقبائل وقسمتنا إلى أربعة: قبائل كبرى وقبائل صغرى ثم قبائل عليا وقبائل سفلى، في أبحاثي سميتها بالزواوة لأن منطقة القبائل كانت تسكنها الزواوة، وقبيلة الزواوة هي فرع من قبيلة الصنهاجة البربرية الكبيرة التي جاء منها الحماديون ومنهم الإمام عبد الحميد ابن باديس وبالتالي ألفت هذا الكتاب وجمعت فيه ما يربو عن ستين عالما.
من هم علماء منطقة الزواوة والذين أبرزت آثارهم في كتاب «علماء من زواوة»؟
-كما ذكرت لك هذا الكتاب ليس قاموسا إنّما اخترت عينات تتوفر المراجع عنهم وكانوا سادة العلم في زمانهم من أمثال: محمد بن بلقاسم الزواوي الذي توفي سنة 280هـ، الإمام ابن معطِ الزواوي وهو أول من ألف الألفية في النحو العربي فهو المبتكر قال عنه الإمام الذهبي: هو شيخ العربية ليس في الجزائر فقط بل حتى في المشرق العربي، حيث أن ألفيته في النحو يتكون من ألف بيت بدأه في بجاية وختمه في بلاد الشام، ومات في القاهرة سنة 628هـ، وأصبح شيخ العربية في المشرق العربي، حتى أن الإمام السخاوي يقول عنه: «أي إجازة في اللغة العربية لم تمر على ابن معطِ تعتبر باطلة».
وأبو الفضل المشدالي الذي يتقن 28 علما حيث درس أيضا على عشرة من كبار علماء بجاية ثم درس على عشرة من كبار علماء تلمسان أيضا وأصبح أكبر العلماء في زمانه، وقد قال عنه ابن عذيبة الفلسطيني الذي كان تلميذًا له: «ليس له مثيل في الأرض»، ويقول السخاوي المصري عنه: «من لم يسمع درسه لم يقرأ العلم»، كما قال عنه تلميذه الإمام برهان الدين البقاعي: «من لم يسمع منه لم يسمع العلم حتى أنه لم يولد»، وكان أبو الفضل المشدالي أول من وضع قاعدة التناسب بين الآيات والسور في القرآن الكريم وأملاها على تلميذه برهان الدين البقاعي من بقاع لبنان وقد ألف عنه كتابا في هذا الموضوع بعنوان «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور.
أيضا القاضي أبو الروح المنقلاتي الزواوي وهو القاضي شرف الدين عيسى بن مسعود بن المنصور المنقلاتي الزواوي من أكبر العلماء في زمانه تخرج على يد الشيخ أبو يوسف يعقوب المنقلاتي في بجاية وتوفي سنة 770هـ، لما انعقدت جلسة محاسبة ابن تيمية على آرائه التي خالف بها ما ذهب إليه الجمهور في المذاهب الأربعة، عُقدت له جلسة محاسبة لمناقشة آرائه سنة 720هـ بالقاهرة، وقد ترأس الجلسة العامة الملك الناصر أحمد بن قلوون، أما الجلسة العلمية فترأسها قاضي قضاة المذهب الشافعي وهو الإمام بدر الدين ابن جماعة بحضور قضاة المذاهب الأربعة وكبار علماء المذاهب الأربعة، وقد كان أبو الروح المنقلاتي الزواوي هو الذي أُنتُدبَ باتفاق العلماء الحاضرين لمناقشة ابن تيمية.
الشيخ زين الدين الزواوي من علماء المالكية الذي كان شيخ الإقراء في بلاد الشام وتوفي سنة 665هـ، وأيضا جمال الدين الزواوي ابن سومر البربري المنقلاتي قاضي قضاة المذهب المالكي لمدة ثلاثين سنة في دمشق وهو شيخ ابن كثير، وأبو علي الزواوي وهو من أكبر علماء الجامعة المصرية وهو شيخ الإمام الشاطبي، وهو الوحيد الذي تحصل على درجة الأستاذية، وقد طلب منه ابن خطيب أن يجيزه فأجازه هو وولديه بالأندلس، ونصر الدين المشدالي الذي كان قطبا جامعيا في بجاية، حيث كان يأتيه الطلبة من الأندلس ومن المغرب وتونس وقد توفي سنة 731هـ.

لماذا كل هذا الإهمال من قبل المؤرخين والباحثين لعلماء منطقة الزواوة؟
-ليس علماء الزواوة فقط بل حتى الكثير من علماء الجزائر مثلا: ابن قرقول الجزائري، أبو علي الحسين المسيلي أيضا الذي كان يُلقب في زمانه بأبي حامد الصغير، وبالتالي علماؤنا مهملون ليس فقط الزواويين، ومن منا سمع بالسيدة رقية بنت أبي محمد عبد القوي البجائي وتسمى رقية البجائية، التي توفيت سنة 876هـ في أواخر القرن التاسع، حيث كانت لها حلقة في الحرم المكي وكان يحضر حلقاتها كبار العلماء ويرجون إجازتهم، والإمام السخاوي في كتابه: «الضوء اللامع» يقول حرفيا: «ولقد أجازتني السيدة رقية بنت أبي محمد عبد القوي البجائي في حرم المكي».
أيضا يحي الشاوي من مليانة أحد كبار علماء القرن الحادي عشر الهجري، درس على يد سعيد قدورة وعلى عبد العزيز الثعالبي وعلى حسن بهلول الزواوي، ثم رحل إلى مصر وأصبح أحد كبار شيوخ الأزهر، وقد بعثت الخلافة العثمانية إلى الأزهر قائلة: «ظهر عندنا شخص يدعي العلم ابعثوا لنا من يناظره»، اجتمع شيوخ الأزهر وقرروا أن يرسلوا إليه يحي الشاوي، ولما وصل إلى اسطنبول أخذوه إلى مكان الاجتماع وترأس الاجتماع السيد الصدر الأعظم الذي يعتبر الشخصية الثانية بعد الخليفة، ولما دخل يحي الشاوي القاعة قال: «السلام عليكم، أنا يحي الشاوي» فجلس، ثم قال لهم: من أنا؟ فلم يجب عليه أحد، فقال: «لم تحفظوا اسمي من كلمتين وتدعون العلم، من أين يأتيكم العلم!؟، أنتم لستم أهلا للمناظرة»، فنزل الصدر الأعظم من كرسيه وقبله من جبهته وأخذه إلى الخليفة.
– الأمر يتعلق بالتوجيه والوعي وبعض المواقف، أذكر ما وقع في سنة 1980م بما يسمى بالربيع البربري، وقد كنت رئيسا للدائرة في لاربعاء ناث ييراثن، وأعلم جيدا ما جرى هناك تصرفات تدفع الناس إلى أن يتخذوا مواقف مضادة، أشير هنا مثلا إلى التبشير في التاريخ القديم للمنطقة، هناك مستشرق اسباني معروف يدعى رامون ليول، جاء إلى بجاية في القرن الثامن ليتعلم اللغة العربية وكان هذا المستشرق فيلسوفا وقسيسا وعالما، فأراد أن يبشر للمسيحية في بجاية فقتله البجائيون لأنه أراد أن ينال من مقومات هذا الوطن والمتمثلة في الدين الإسلامي.
وفي الحقبة الاستعمارية جند الفرنسيون أساقيفتهم منهم لافيجري والقسيس دوفوكو، ومع ذلك لم يتمكنوا من تحقيق مصالحهم التبشيرية، وقد أنشأ الكاردينال لافيجري هيكل الآباء والأخوات البيض خصيصًا للجزائر وكان أول مركز لهم في بلاد الزواوة بمنطقة بونوح ببوغني.
واليوم أصبحنا نسمع المسيحية في منطقة القبائل لهذا أقول أن هناك أسبابا لابد أن تُعالج سياسيا وتعلميا في المدارس والجامعات، وقد أدرك الرئيس الراحل هواري بومدين أهمية التعليم الديني التربية الإسلامية في إصلاح المجتمع وتوجيهه الوجهة السليمة، فقرر إنشاء شعبة العلوم الإسلامية في وزارة التربية والتعليم والتي تم إلغاؤها سنة 2003م، وهنا أقول لماذا؟ وماذا يعرف الطالب الجزائري عن الإسلام في مدرسته أو في ثانويته أو في جامعته؟ وبالتالي نحن من زرعنا الفراغ والقضية هي قضية سياسية.
لما انعقد اجتماع لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في نادي الترقي بحضور جمع غفير من الناس، ألقى الإمام عبد الحميد ابن باديس خطابا باللغة العربية فضجت القاعة بالتصفيق، ثم طلب الإمام عبد الحميد ابن باديس من الشيخ يحي حمودي وهو من منطقة بني ورثيلان أن يلقي خطابا باللغة الأمازيغية، وهنا أشير أننا لدينا في جمعية العلماء المسلمين شيخان فصيحان جدا باللغة الأمازيغية: الشيخ صادق عيسات والشيخ يحي حمودي ولما ألقى هذا الأخير خطابه بالقبائلية ضجت القاعة بالتصفيق أكثر من ذي قبل، وهنا علّق الشيخ عبد الحميد ابن باديس قائلا: «ما جمعته يد الله لن تفرقه يد الشيطان» فالذي جمع الأمازيغي والعربي هو الإسلام، كما قال عبارة أخرى مهمة جدا سياسيا: «الجزائري أبوه الإسلام وأمه الجزائر» ليس القبائلي ولا الشاوي ولا الميزابي ولا القسنطيني، والشعب الجزائري كونه الدين على هذه الأرض المقدسة.
كان ابو مروان البوني من كبار علماء زمانه وأول من شرح المدونة وهو قائد البحرية، إن كل الجهادات في الجزائر خرجت من المساجد، الشيخ الحداد هو شيخ الزاوية والطريقة الرحمانية، الأمير عبد القادر ابن شيخ زاوية الطريقة القادرية، ومحمد بن عثمان الكبير باي الغرب الذي طرد الإسبان من وهران كان من كبار العلماء في زمانه، كما كانت مقدمة جيشه كلهم من طلبة القرآن، والذين قال عنهم الشيخ توفيق المدني: «عباد في الليل ومجاهدون في النهار»، الشعب الجزائري واحد أبوه الإسلام وأمه الجزائر، وحتى في ثورة أول نوفمبر كلمة السر هي: خالد وعقبة: خالد بن الوليد وعقبة بن نافع، نحن أنشأنا وكوننا الإسلام وجعل منا شعبا واحدا فالخيوط التي تشدنا مع بعضنا أقوى بكثير من هذه السخافات، فأول قائد للولاية الثانية هو العقيد ديدوش مراد وهو قبائلي، وقائد المنطقة الخامسة في وهران هو العربي بن مهيدي من عين ميلة، والسويداني بوجمعة من قالمة أشرف على تهيئة الثورة في العاصمة ومتيجة والبليدة والقليعة منذ سنة 1950م، وبالتالي نحن لا نفرق بين هذا وذاك كلنا جزائريون وكلنا ننتمي إلى هذا الوطن.
أستاذ أعود بك إلى موضوع الحرف الأنسب لكتابة اللغة الأمازيغية ما هو حسب رأيكم؟
-في العالم كله هناك مجموعات لغوية تنتمي إلى ثلاث أصول أساسية هي اللغات السامية واللغات الآلية واللغات الأسيوية، اللغات السامية بما فيها الأمازيغية والعربية والعبرية والفينيقية والكنعانية كلها لغات تجمعهم مخارج الحروف بما يسمى بحروف الحلق كحرف العين والحاء والهاء وحروف القلقلة مثل القاف. واللغات الآلية وهي كل اللغات الأوروبية مثل اللاتينية أو الجرمانية أو السكسونية وهذه اللغات تفتقر لبعض الحروف كحرف العين والحاء، واللغة الإسبانية التي اكتسبت بعض الحروف من اللغة العربية عندما بقي المسلمون في إسبانيا.
اللغة الأمازيغية من الناحية العلمية لا يمكن أن تُكتب بما يسمى التيفيناغ التي هي لغة محلية لأمازيغ التوارق في جبال الهقار، حروفها معدودة وليس لها قواعد ولا روابط نحوية ولا يمكن أن تستوعب كل الحروف الموجودة في الأمازيغية التي هي تقريبا 33 حرفا، كما أن اللغات الآلية الفرنسية تستلزم علينا أن نزيد 14 حرفا لنتمكن من كتابة اللغة الأمازيغية بالحرف اللاتيني، يعني لابد أن نبدع أبجدية جديدة متكونة من 14 حرفا، لأن لغات الحرف اللاتيني ليس فيها بعض الحروف كحروف الحلق وحروف القلقلة.
بينما إذا كتبنا اللغة الأمازيغية بالحرف العربي وهو حرف سامي، سينقصنا فقط أربعة حروف، أما إذا كتبناها بالحرف اللاتيني فنحتاج إلى 14 حرفا آخر، واليوم يوجد من يكتب اللغة الأمازيغية بالحرف اللاتيني ويضيف حرف الهاء والعين بالحرف العربي، فلماذا لا أكتب بالحرف العربي مباشرة، وكل تراثنا مكتوب بالحرف العربي وحتى قصائد كبار الشعراء في منطقة القبائل كالشيخ سيدي محند أومحند، إذن علميا دون الحرف العربي لا يمكن كتابة اللغة الأمازيغية بالحرف اللاتيني إلا إذا تفتقت عبقرية المجتهد بأبجدية جديدة، فهتان اللغتان «العربية والأمازيغية» تلازمتا منذ 14 قرنا ولم يكن هناك تنافر أو خصومة أو تضاد أو خلاف فقد سارتا متوازيتان متكاملتان.
كيف نتعامل مع الكتابات الفرنسية حول الأمازيغية؟
-نحن لسنا ضد اللغات نحن ضد الاستلاب الثقافي والفكري، فالفرنسية كبقية اللغات الأخرى يمكن أن تكون لغة للتعلم لا كوجه من وجوه الاستعمار القديم يظهر بلباس جديد، وهنا أشير إلى سوريا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج الاستعمار الفرنسي منها سنة 1945م، مُنع تعليم اللغة الفرنسية بالبلاد وبالتالي تم القضاء على الأثر الفرنسي تماما في سوريا، إذ لم يتم إدراجها في المدارس السورية إلا بعد الستينيات يعني بعد مضي تقريبا ثلاثين سنة من خروج فرنسا وبعد انتهاء الجيل الذي نشأ مع الثقافة الفرنسية، نحن بكل أسف طردنا الاستعمار المادي وأدخلنا الاستعمار الفكري، والبشير الإبراهيمي قالها في أول خطبة ألقاها في جامع كتشاوة 1962م: «خرج الاستعمار من أرضكم، ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم».
كتب مولود قاسم في 14 نوفمبر 1962م مقالا بعنوان: «تعريب الأمخاخ والقلوب قبل تعريب اللسان» قائلا: «إن هؤلاء الذين يجهلون لغتهم لم يستحوا بذلك بل يتبجحون بلغة العدو، وإن هؤلاء متضامنون ولقد استطاعوا أن يستولوا على دواليب الدولة، وهؤلاء عبارة عن دودة في جسم الجزائر إن لم يقطعها قتلته»، إن فرنسا التي لم تستطع أن تنال منا بسبب ركيزتنا والمتمثلة في اللغة والدين، لم يكن هناك إطلاقا مشاكل بين اللغة العربية ومختلف اللهجات في الجزائر، إذن اللغة العربية هي لغة القرآن هي اللغة الثقافية التي أسست الفكر الإسلامي الثقافي، والشيخ الفضيل الورثلاني يقول: «الإسلام واجب علينا وجوب المقاصد فديننا هو الذي حفظ شخصيتنا وهو الذي وحدنا وهو الذي مزج بعضنا ببعض.. واللغة العربية واجبة علينا وجوب المقاصد….».
وقال أيضا العلامة الإصلاحي الشيخ صالح بن مهنا القسنطيني الذي توفي سنة 1910م، يقول وهو يكتب عن مدينة قسنطينة: «مدينة قسنطينة يسكنها ثلاثة أجناس المسلمون واليهود والنصارى، ويقول المسلمون ثلاثة: عرب وبربر وأتراك هؤلاء الثلاثة امتزجوا بالنسب والمصاهرة فصاروا واحدا هذا هو الجزائري». وبقيت الآن الأوتار الأخرى التي تعزف خارج القطيع ويجب أن تُعالج.
حدثنا عن دور جمعية العلماء المسلمين الديني والتربوي والتهذيبي ودورها في الثورة التحريرية؟
-يوجد بيان في العدد الثالث من مجلة الشهاب أصدره العلامة عبد الحميد ابن باديس، يطلب فيه من يُعينه على إنشاء حزب للعلماء ومن يتولى ذلك له جائزة، وفي العدد التاسع لمجلة الشهاب جاء أول رد من طرف الشيخ المولود الحافظي الأزهري الفلكي وهو أول من علق على هذا البيان وأجاب عبد الحميد ابن باديس في جانفي 1929م، حيث قال: «حان الوقت بالفعل لإنشاء هذا الحزب للعلماء لتنقية الدين بكل ما لحق به ومحاربة الشعوذة والطرقية وكل ما انتسب إلى الدين»، حتى أن الشيخ المولود الحافظي وضع الأسس والأهداف التي يسعى إليها هذا الحزب والمتمثلة في تنقية الدين مما لحق به من الشعوذة والطرقية ثم إنشاء مدارس لتعليم اللغة العربية، ثم إدخال اللغة الفرنسية في هذه المدارس، وكذا جمع الزكاة لبناء المدارس، ثم تأليف الكتب ونشر التراث، وأن يبتعد هذا الحزب عن السياسة التي ستعرقل أهدافه. هذا ما جاء في جواب الشيخ المولود الحافظى على نداء العلامة عبد الحميد ابن باديس الذي صدر في العدد الثالث، وعلى هذا بدأت الاجتماعات وتكونت الجمعية يوم 05 ماي 1931م، وأنا أشرت إلى أن الشيخ العلامة عبد الحميد ابن باديس ومن كان معه كانوا أذكياء، حيث في الاحتفال بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر، قال كاردينال الجزائر قسيس الكنيسة الكتدرائية في جامع كتشاوة: « الآن قد ولى عهد الهلال في الجزائر نهائيا وأقبل عهد الصليب أبدا»، لكن الشيخ عبد الحميد ابن باديس ومن معه لم ينفعلوا عاطفيا ولم يردوا عليه لكن في سنة 1931م أسسوا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كرد بأن الهلال مازال قائما في الجزائر وهو الأصل والوحيد ولا يوجد من ينافس ويضاهي الهلال في الجزائر، كما قد صدر قانون يمنع تعليم اللغة العربية سنة 1938م، لكن العلامة عبد الحميد ابن باديس تحدى هذا القانون وأنشأ المدارس وكوّن الطلبة لتعليم اللغة العربية.
إن الدور الذي نهضت به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لا ينحصر في التوعية أو في التعليم فقط، بل أدت الجمعية دورا مهما في تهيئة الشعب لقيام الثورة، ولأن الوعي السياسي والديني هو الذي يكوّن في النفوس الرغبة في التحرر وفي طرد المستدمر والرغبة في الحرية وفي استرجاع ما سُلب منا.
وهنا أشير إلى أن الجزائر لم تستقل سنة 1962م بل استرجعت استقلالها في هذه السنة، فنحن كنا دولة قبل سنة 1830م وفي 1962م استرجعنا سيادتنا واستقلالنا وليس قيام الدولة الجزائرية إنما إعادة بعث الدولة الجزائرية التي كانت من قبل موجودة وقوية.
حرصت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والعلامة عبد الحميد ابن باديس على التعليم لأن الشعب المتعلم هو الذي يسعى إلى الاستقلال وهو من يبني الحضارة ويسترجع السيادة وهو الذي سيبني الدولة ويحافظ على مقوماتها، ولابد أن نعلم أن كل شيء يمكن أن نتفاوض عليه إلا نقطتين أساسيتين لا مفاوضات ولا نقاش عليهما مع أي كان وهما: وحدة الشعب ووحدة الوطن.
شكرا لكم أستاذ كلمة ختامية لجريدة البصائر؟
– نترحم على الشيوخ الذين لم يكن لهم من هم إلا إحياء الشعب الجزائري، ولابد على هذا الشعب تطبيق ما قاله العلامة عبد الحميد ابن باديس وكما ورد في نشيد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين «شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب»، فالجمعية هي التي أحيت نفوسنا وفتحت عيوننا ودفعتنا إلى الثورة ضد الاستدمار الفرنسي لاستعادة سيادتنا من جديد.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com