ما لا تعرفــــون عن الدكتور الطاهر بونابي
د. الصالح بن سالم/
الدكتور الطاهر بونابي يشتغل حاليا أستاذا للتاريخ الوسيط بجامعة المسيلة، لا يمر يوم أو أسبوع إلا وألتقيه أو أكلمه ويكون التاريخ دائما حاضرا في نقاشاتنا، إذ لمست فيه علما غزيرا ومنهجا قويما وأخلاقا لا تزحزحها نزوات البشر الميالة للمناصب والمكاسب وشهوة المال والسلطة صدرت له مجموعة كبيرة من الأعمال نذكر منها: «التصوف في الجزائر خلال القرنين 13-12م»، «عصر المتصوّفة في المغرب الأوسط» في 4 أجزاء، «البيت الباديسي مسيرة علم ودين وسياسة»…الخ.
– لقد كان الطاهر بونابي من أقرب الطلبة للمرحوم موسى لقبال هل من ذكريات عالقة عن هذه الشخصية العلمية الفذة؟
*في حضرة الأستاذ موسى لقبال كان يستقيم اللسان ويتزن التاريخ ويُفرق بين العقائد والمذاهب وتصفو الشريعة. إنه رحمه الله بحق نادرة من نوادر الفكر الإسلامي في شمول فنونه، تراه صارما فتعتقد أن في طبعه النفور، ولكن إذا دنوت واقتربت من شموله فإنك تستكشف أنك صغير أمام شيخ عملاق صرح مشيخته شامخ، لذلك كان ينظر إلينا من أعلى هذا الصرح ونحن في السفوح وهي المسافة الطبيعية التي تفصل بين المشيخة الحقة والطالب المجد، وإليك واحدة من مظاهر صروحه أحكيها للطلبة والمتدرجين ويتعلق الأمر بطريقته في تصحيح أوراقنا ونحن قلة من الطلبة في الدراسات المعمقة بجامعة الجزائر (1989-1991م). كان يصححها وفق هذا الشمول، فإذا أصبنا في صحيح الأحداث والوقائع -التاريخ- يمسكنا بكماشته في مواطن الأسلوب والتركيب ومجمل اللغة، فقد كان من أبرز نحاة هذه البلاد، وكلما عبرنا بتكلفة من هذا المستوى، تجده ينقلنا إلى المتشابه وأشكال المقارنات والمقاربات الموسوعية في موضوع الامتحان، فيذكرك بهذا القسطاس العلمي بكبار الموسوعيين الأوائل في الحضارة العربية الإسلامية أمثال الجاحظ وابن قدامة والمسعودي.
– ماهو سر توقيت (4 صباحا) في يوميات الطاهر بونابي وهل يمكن اعتباره أحد أسرار نجاحاته العلمية؟
* لا يجدني شروق الشمس، إلا وأنا أقرأ أو أكتب وذلك من فضل الفجر في قلبي وأنواره على عقلي، درجت عليه في شبابي ووصلته بكهولتي زمنا يصفو فيه ذهني مع موعد كل فجر من أشغال الحياة فأقتنص من التاريخ معارفه وأرتقي في معارجه وأسري في منازعه.
– يعتقد البعض بأن زهد الطاهر بونابي في الحياة وفي مخالطة المجتمع ناجم من تعمقه في دراسة التصوف؟
*لا أعتقد أن دراستي الأكاديمية للتصوف قد حالت بيني وبين الناس، فأنا أعيش حياتي مندمجا غير منعزل متواصلا غير منقطع. لكن مع (شعب الحكومة) من أصحاب الأشغال والأعمال والمحكوم على شريحة كبيرة منهم مدى الحياة بعقود ما قبل التشغيل التي لم ترد حتى في منظومة الرومان القانونية وهي الأكثر إمعانا في إهانة البشر، فهؤلاء أتواصل معهم باستمرار وحبل صلاتي بهم متين في الخفاء والعلن. أنا لا أرى هؤلاء خلف الشاشة أو اليوتيوب أو أن أحكي أحوالهم وأقدم الحلول النظرية لهم من البلاطوهات أو على منصات الفايسبوك. أنا لست من نخبة رابطة العنق المندسة في المؤسسات أو منظورا إليه في قوائم الانتخاب بلا نسبة لهذا الشعب.
– يقال بأن الطاهر بونابي يتعامل بصرامة فوق اللزوم مع طلبته (تدريسا وإشرافا) ما صحة ذلك؟
* يرونها صرامة فوق اللزوم، وأراها من أدب الدرس وعنفوان المعرفة وأساس البحث وضمان نجاحه. فلا تخاذل ولا تهاون في صناعة العقل قوام الحضارة والإنسانية الفذة.
– جالس وعايش الطاهر بونابي مشرفه عبد العزيز فيلالي لسنوات طويلة هل من كلمات مختصرة عن هذه الرفقة العلمية؟
ليس هذا موقف الاختصار ولكن لمساحة السؤال حدود، إن ما كتبته حول الدرس والإشراف عند شيخي عبد العزيز فيلالي أو ما قمت بدراسته في مستوى مجمل المبادئ والمعارف التي كتب بواسطتها مؤلفاته، ماهو سوى النزر القليل مما أفكر فيه والذي أنوي تجسيده فعلا وبعضه الآن خطاطة على مكتبي. وقد احتاج مني ذلك إلى الاستعداد والتكوين في مستوى المناهج ومعارف التاريخ وخصوصا وأن كتاباته في الآونة الأخيرة تشعبت امتداداتها إلى أزمنة في التاريخ القديم والحديث وقضايا العصر والفكر، مما ضاعف من إحساسي بالمسؤولية حيال هذا الجهد الكبير وخصوصا وأنه كساني بهيبة كبير تلامذته.
– كان للطاهر بونابي سفريات علمية عديدة خارج الجزائر نحو المغرب الأقصى وتونس وتركيا … ماذا أكسبته هذه الرحلات؟
أكسبتني هذه الرحلات إلى جانب المتعة العلمية والاقتصاد في انجاز أبحاثي والراحة النفسية، كذلك إقامة نسيج من العلاقات مع العلماء الباحثين في هذه البلدان، وهي اليوم أكبر من أن تفسدها فقاعات السياسة ودوي طبول الحرب الوهمية على الأرحام. ثم إن الرحلة كانت لي ولا تزال أكبر فضاء رأيت فيه الماضي المندثر حيا في تقاليد وأعراف شعوب هذه البلدان فمن خلالها يدرك المرء المشترك الروحي والثقافي والحضاري الذي يشعرك بوحدة دار الإسلام حية تتناغم أوشاجها مع كل حوار.
– تأثر الطاهر بونابي كثيرا بمنهج أبي القاسم سعد الله في الكتابة التاريخية رغم فارق التخصص بينهما؟
إن جوهر إعجابي بالتجربة الكبيرة في الكتابة التاريخية عند سعد الله والتي أنجزت حولها العديد من الدراسات، ليس في طبيعة الموضوعات التي تناولها في التاريخ الثقافي الوسيط والتي تعد انتقائية لها رسائلها في الحاضر العربي والإسلامي المتردي، وإنما في مجمل الطرق المنهجية والمعرفية التي استقاها من مصادر عصر الأنوار الأوروبي خلال القرنين 18 و19 الميلاديين ومما اكتسبه عن رواد المدرسة الأنجلوسكسونية الذين عاصرهم في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين والتي وظفها في قراءة وتفسير تاريخ الجزائر الثقافي، مبتعدا به عن القواعد المنهجية التي ارتضتها له مدرسة الحضارة العربية الإسلامية من منظور اعتقاده بأن تواريخ الأمس تكتب بأدوات اليوم.
وهذا الجانب العلمي والمعرفي من التاريخ هو من شكل المشرك بيني وبين سعد الله في النظر إلى الظواهر الثقافية، ثم إن تفرده في موسوعته التاريخ الثقافي بطريقة في الكتابة مضمونها عقلنة هذا التراث والنفخ فيه بدافعية الفكرة الواعية -الإسلام-، يعد باكورة طريقة جزائرية في كتابة تاريخنا الثقافي وعلينا الالتفاف حولها وترقيتها أكثر. وأشدد هنا على مصطلح الطريقة خلافا للمنهج أو المدرسة المرتبطين بشروط حضارية وتطور واسع في شتى العلوم، نحن اليوم خارج حركته.
– لماذا فضل الطاهر بونابي البقاء في مدينة عين تاغروت رغم توفر إمكانية العيش في المدن الكبرى؟ وهل سيكتب عنها يوما؟
قد يضيق مكان الحوار في الموضوع هنا، لأنه يتعلق بعروقي وجذوري في هذه المدينة، فهي موطن آبائي وأجدادي الذين يستمد منه بيتنا اليوم جذوره وأصالته. فمن جدي عيسى بن أحمد بن الحسين البونابي نستمد عرف الوجاهة كما كان في العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين واقفا على تمثيل عين تاغروت باسم شيخ الدوار عندما كان زعماء الاتجاهات الوطنية يحطون الرحال بها وهي حين ذاك بلدية مختلطة منذ 1880م وكان آخر حواره سنة 1943م بحانوته المقابل لدار البلدية مع الزعيم فرحات عباس حول مستقبل البلاد وحكم الكولون.
أما أم جدي كلثوم الرجوحية دفينة مقبرة كاف الحمام سنة 1934م فكانت الطبيبة المداوية للأهالي والكولون معا لما حباها الله من معرفة واسعة بالطب الشعبي الذي خبرته ببلاد القبائل، ومع أبي وإخوتي استمرت حرفة التجارة في بيتنا، بينما كانت أم أبي جدتي زينب الجدوية قصاصة من الطراز العالي تواصل الأربعين في تغريبة بني هلال وتغزل خيوط الروايات حول هارون الرشيد والبرامكة والحكايات الشعبية والأمثال الموزونة والطريفة في آن واحد، وقد أدركت مجلسها العامر في صغري حتى عام 1976م، وزاد في أرومة بيتنا منزلة زوج عمتي سي الميلود بن الميلود آخر أحفاد الولي سيدي الميلود صاحب الضريح غرب عين تاغروت الذي كانت أخلاقه الإنسانية الحقة ورواياته حول الأولياء تثير اهتمامي منذ طفولتي.
فمن جدي ثم أبي احترف بيتنا التجارة ومن أمه اكتسبنا حرفة الطب السارية في الأبناء ومن والدة أبي القصص والأخبار الطوال -التاريخ- وبذلك صار طابع بيتنا يجمع بين عرف التجارة والطب وكتابة التاريخ الذي أنهض بها أنا اليوم، لذلك تجدني مثقلا بهذه الأمانة على أرضها.
أما فيما يخص الكتابة عنها فحتما سيكون ذلك لكن عندما أحصل على التقاعد إن شاء الله لأنني اليوم منشغل بأبحاثي الأكاديمية فلطالما سألت نفسي عن دلالتها الطوبونومية وكنيتها البربرية التي لم يجرأ الاستعمار الأخير على تغيير اسمها ومجمل تفسيره أن معناها مدينة السهل والصخر ترحب بك سهولها من أية ناحية دخلتها ويلقاك صخرها في مدخلها ومخرجها، فيها آثار البربر الأوائل وعمران الرومان والبيزنطيين تحت الأنقاض والأتراك والفرنسيين وقد اندثر منها اليوم الكثير بسبب الأيادي العابثة بزمن الآخرين وثقافتهم.
لأن غريب الجغرافية يأبى ألا أن يجسد طبعه في الأوصاف والتصرفات، ومن هذا الباب سأكتب تاريخ هذا العمران المندثر بأوصافه المادية والهندسية وتاريخ بنائه وكيف بني؟ ولماذا بني؟ وكيف ترفلنا في جماله واثر في سلوكنا؟. ومن هدمه؟ وكيف هدمه؟ ولماذا هدمه؟ ليكون دليلا على حياة راقية عشناها قبل أن تعبث هذه الأيادي بهذا التاريخ في العقود الثلاثة الأخيرة من هذا الزمن.