ناصر الدّين دينييه من خلال رسالتين خطّيتين نادرتين
أ. محمد بسكر/
عندما اختار ألفونس إتيان دينييه إحدى واحات الصّحراء الجزائرية دارَ إقامة، لاشك أنّ طبيعتها خصّته بمتعتين (الرّسم والكتابة)، فمتعة الرّسم برزت في لوحاته الزّيتية بداية من سنة 1888م، والتي صوّر فيها الطبيعة العربية بأضوائها الخلّابة، وظلالها الصّامتة التي تعكس جمال الصحراء بكثبانها وواحاتها، أمّا متعة الكتابة فهي بالنّسبة إليه رسمٌ بالكلمات ظهر من خلال مؤلّفاته التي عالج في جزء منها قضايا الرّسم وفنونه، وفي جزئها الآخر قضايا تتعلق بالإسلام وتعاليمه، وضع فيها عصارة أفكاره وفهمه لهذا الدّين، وردّ بموضوعية ترهات المستشرقين الذين تحاملوا على الإسلام عقيدة وشريعة.
اعتنق إتيان دينييه الإسلام بعد دراسة وتأمل سنة 1913م، وأشهره سنة 1927م أمام الشيخ محمد بوقندورة المفتي الحنفي بالجامع الكبير بالعاصمة، وسمى نفسه (ناصر الدّين)، وعندما عاد إلى بيته ببوسعادة ذهب إليه وفد من أدباء وعلماء ووجهاء البلدة، فاستقبلهم مع صديقه سليمان بن إبراهيم، فقام الشّيخ عبد الرحمن بن بيوض إمام جامع الموامين، وارتجل خطابا بيّن فيه ما للدّين الإسلامي من الأدلة الواضحة التي لا تخفى، وهنّأه بإشهاره للإسلام.
كانت وفاة إتيان دينييه بباريس بتاريخ 24 ديسمبر سنة 1929م، ونقل جثمانه إلى بلدة بوسعادة بتاريخ 12 جانفي 1930م، لم يكن يوم دفنه يوما عاديا، وإنّما تحوّل إلى ملتقى فكري لم تشهد البلدة مثله، وحسب تعبير الشّيخ الطيب العقبي: «هو يوم هذه البلدة المشهود، ونهارها التاريخي الذي ما قدّر لها ولا لغيرها من بلاد الله فيما رأينا وسمعنا تشهد مثله، فسبحان من جعل البلاد تسعد كما يسعد العباد، وجعل من البلاد التي نالت السعادة يطابق اسمها مسمى بلدة (بوسعادة)»، أتاها النّاس من كلّ فج وناحية، وجاءها أرباب الصحافة العربية والفرنسية، والإدارة والسّياسة، وحضر الموكب الجنائزي «ميرانت» مدير الشؤون الأهلية، واجتمع فيها الأدباء والشعراء والفقهاء، أمثال أحمد توفيق المدني، والشيخ مصطفى بن محمد القاسمي، والطيب العقبي، والأستاذ الأمين العمودي في وفد من أهل بسكرة، وآخر من سيدي عقبة يقوده الحاج الشاوي من كبار التجار، والحاج محمد حوحو، والعقبي بن عمارة، وصالح بن رزقي، والأديب مكي إسماعيل، وقاضي السّادة الإباضية بالعاصمة الشيخ سليمان برفقة الشاعر مفدي زكرياء، وأبو اليقظان صاحب جريدة (وادي ميزاب)، يقول الشيخ الطيب العقبي (الإصلاح، العدد11 /1930م): « إنّه كان في انتظارهم لما حلّوا ببوسعادة، الأديب المحبّ المحبوب السيد محمد بن بسكر، الذي هيأ لوفد بسكرة وسيدي عقبة مكانا للاستراحة والإقامة»، ثم قال:«وقد شهدنا لأوّل وهلة من كرم أهل هذه البلاد ما جعلنا مدينين لهم بالشّكر على مرّ الأيام، وكرّ السّنين والأعوام».
كتبت عن يوم مدفنه الجرائد الفرنسية كجريدة «L’AFRIQUE DU NORD ILLUSTREE»، التي خصّت الحدث بمقالة من صفحتين بعنوان «جنازة إتيان دينييه»، كما تناولته الجرائد العربية كالإصلاح والنجاح والشهاب، وتسلّم رفيقه الحاج سليمان بن إبراهيم با عمر المزابي رسائل تعزية من داخل الوطن وخارجه، منها رسالة من الأديب شكيب أرسلان بتاريخ 10 جانفي 1930م، وما يهمنا في هذا الموضوع رسالتان خطّيتان، لما لهما من مدلولات تاريخية تهم الباحث.
• الرسالة الأولى: من الأستاذ أحمد بوشمال، وهو صاحب تجربة طويلة في العمل الصحفي، ويعتبر عضد الإمام ابن باديس وصفيه، وكاتبه والمؤتمن على أسراره، سبق أن أسند إليه رئاسة تحرير أسبوعية المنتقد سنة 1925م، ثم عيّنه مديرا لشؤون مجلة الشهاب وصاحب امتيازها، وعندما أسسّ جمعية التربية والتعليم، ترأس قسم الشبان فيها، والرسالة محلّ حديثي موجهة من قبله إلى الأستاذ أحمد توفيق المدني، ومؤرّخة بتاريخ 17 شعبان 1348م الموافق: لـ 17جانفي 1930م، وهي مختصرة الألفاظ، تحدّث فيها بلسان الإمام ابن باديس، ونقل إليه رغبته أن يكتب ملاحظات عن الاحتفال بجنازة المرحوم السّيد ناصر الدين كمبعوث من طرف الشهاب، وأخبره أنّ نشر المقالة سيكون مع صورته، وهي لفتة طيبة من ابن باديس تشير إلى اهتمامه برجال الفكر والثقافة، وبهذه الشخصية الفرنسية التي اختارت الإسلام دينا، ودافعت عنه في مؤلفاتها، وسبب اختيار ابن باديس لأحمد التوفيق ليكتب عن ناصر الدّين كونه يدرك العلاقة الوطيدة بينهما، فسبق أن زاره إتيان دينييه بإقامته بالجزائر العاصمة سنة 1926م رفقة صديقة الحاج سليمان، وتحدّث المدني معه في هذا المجلس عن الفنّ والحياة ومآسي الجزائر، وتهالك المستعمرين على خيراتها، وكيف أخبره إتيان دينيه أنّه ألّف رسالة مع سليمان بن إبراهيم سمّاها « الشرق كما يراه الغرب» دحض فيها بحجج دامغة أباطيل المستشرقين، وقدّم له نسخة منها.
وقد لبى أحمد توفيق المدني دعوة «ابن باديس» فكتب مقالة بعنوان «يوم دينييه في بوسعادة» نشرتها مجلة الشهاب بتاريخ 20 جانفي 1930م، تحدّث فيها عن موكب الجنازة المهيب، ومشهده الجليل، والعلماء الذين تداولوا الخطابة أمثال الشيخ مصطفى القاسمي، وأحمد توفيق المدني، والأمين العمودي، والطيب العقبي، والشاعر مفدي زكرياء، وقال إنّ جنازته كانت معجزة أخرى، وكأنّ الجزائر اجتمعت في هذا اليوم على فكرة واحدة، وهي عروبتها وإسلامها، وقدّم في مقاله عرضا ملخصا لمحتويات بعض مؤلّفاته ككتابه(حياة محمد رسول الله) و(الشرق كما يراه الغرب) و(الحج إلى بيت الله الحرام).
• الرسالة الثانية: أرسل الحاج سليمان بن إبراهيم بن باعمر الميزابي رسالة إلي أحمد توفيق المدني (بتاريخ 7 جانفي 1930م)، بعد صدور مقاله بمجلة الشهاب، عبر له فيها عن امتنانه وتقديره لما كتبه عن المرحوم، والسّيد «سليمان» من مواليد بلدة بوسعادة سنة 1870م، تميّز بسعة الثقافة، وتسامحه الودّي الرّائع، وإتقانه للّغة الفرنسية، واطّلاعه الجيد على أهم معالم بلدته السياحية والتاريخية، وله شعبية كبيرة في الوسط البوسعادي، صاحب الفنان إتيان دينييه قرابة الأربعين سنة، فكان سببا في حبّه لعشرة العرب واعتناقه للإسلام، وهذه الرسالة الخطّية الوحيدة التي اطّلعت عليها من تراثه، تشير إلى تمتعه بقدر لا بأس به في اللّغة العربية، ومتابعته باهتمام لما تصدره مجلة الشهاب، وتدل على التعايش والامتزاج بين الأسر البوسعادية باختلاف مذاهبها، أبدى في نصّها استحسانه لما نشره أحمد توفيق المدني في مقاله التعريفي بشخص الرّاحل ومؤلفاته، وقال بأنّه تذكّر محبة ناصر الدّين له، وتعظيمه لشأنه، وتشوقه الدّائم لسماع أحاديثه، وأنّه لولا مشاركة أمثاله وغيره من العلماء له في هذا المصاب، لفاضت روحه أسفًا وحزنًا، وشكره بلسانه ولسان البوسعاديين على أحاسيسه الشريفة.