مع كتاب «رحلة عُمُر مناضل من الأوراس»
من أ.د/ مسعود فلوسي /
الكتب التي أهوى قراءتها وأجد الراحة والمتعة في مطالعتها؛ كتب المذكرات والسير الذاتية التي يتحدث فيها المؤلفون عن حياة كل منهم وما مر به خلال رحلته الدنيوية من أحداث وما واجهه من عقبات وما عاناه من صعوبات وما حققه من إنجازات وما ناله من إخفاقات، وكذا علاقاته بمعاصريه، وصداقاته وعداواته، وأعماله ووظائفه، وآماله وتمنياته وما تحقق له منها وما لم يتحقق، فضلا عن عرض وجهات نظره في أحداث عصره في بلده أو في العالم بأسره.
هذا النوع من التأليف برع فيه الغربيون قديما وحديثا، ولا أعرف ممن كتب فيه من علمائنا القدامى سوى العلامة ابن خلدون الذي سجل مسيرة حياته في كتاب بعنوان «التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا»، لكن في عصرنا شارك في هذا الفن أعلام من أدباء العرب والمسلمين في المشرق العربي من المصريين بصفة خاصة كـ: طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وأحمد أمين وإبراهيم المازني وعبد الحميد جودة السحار، ومن غير المصريين: محمد كرد علي وشكيب أرسلان، وبعد هؤلاء انتشرت الكتابة في هذا الموضوع وشارك فيها الجم الغفير من الكتبة والمؤلفين العرب والمسلمين، نذكر منهم: محمد عزة دروزة، محمد الغزالي، أبو الحسن الندوي، علي الطنطاوي، نجيب الكيلاني، عبد الوهاب المسيري، يوسف القرضاوي، نجيب الكيلاني، أنور الجندي، عماد الدين خليل، جلال أمين، سعيد إسماعيل علي، سمير سرحان، إحسان عباس، أحمد علي طه ريان، وغيرهم كثيرون.
مشاركة الجزائريين في فن السيرة الذاتية
أما في المغرب العربي فالتأليف في هذا الفن قليل، وهو عند الجزائريين أقل، فمن القدامى نذكر الإمام «أبو راس الناصري المعسكري» الذي دون سيرته الذاتية في كتاب بعنوان «فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته»، وجاء بعده الحاج أحمد الشريف الزهار الذي عاش في أواخر العهد العثماني ودون مذكراته التي حققها ونشرها الأستاذ أحمد توفيق المدني. أما في هذا العصر فلعل أول من كتب سيرة حياته بإيجاز هو العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في المقال المطول الذي كتبه بمناسبة انتخابه عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة وحمل عنوان «أنا»، تلاه بعد ذلك المناضل الشباح المكي، ثم الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله الذي كتب عن أطوار حياته بالتفصيل في كتابين هما «مذكرات شاهد القرن» و «العفن»، وجاء بعدهما الأستاذ أحمد توفيق المدني في كتابه «حياة كفاح» ذي الأجزاء الثلاثة، ثم الأستاذ عبد الرحمن بلعقون في كتابيه «الكفاح القومي والسياسي من خلال مذكرات معاصر» و«من وراء القضبان».
لكن حدث في العقد الأخير من القرن العشرين والعقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين ما يمكن اعتباره إقبالا غير مسبوق على الكتابة في هذا المجال من قبل الجزائريين، علماء وسياسيين ومفكرين ومجاهدين. فمن العلماء: محمد الصالح بن عتيق، محمد خير الدين، زروق موساوي، عمار مطاطلة، محمد الطيب العلوي، محمود عبد السلام «ما زالت مذكراته مخطوطة». ومن السياسيين والدبلوماسيين والعسكريين: أحمد بن بلة، الشاذلي بن جديد، علي كافي، أحمد طالب الإبراهيمي، محمد الميلي، لخضر بورقعة، بلعيد عبد السلام، سعد دحلب، الطاهر زبيري، بوعلام بن حمودة، الأمين بشيشي، حسين بن معلم، محمود ملاوي، مصطفى بن عمر، محمد جغابة، حمود شايد، محمد الخضر بلعيد، محمد بجاوي، عبد الحميد مهري «مذكراته ما زالت مخطوطة». ومن الأدباء والمفكرين: مصطفى لشرف، محمد قنانش، عبد المالك مرتاض، أبو القاسم سعد الله، زهور ونيسي، محمد الصالح الصديق، محمد ناصر، عبدالله ركيبي، يحيى بوعزيز، عثمان سعدي «الدكتور»، حسان الجيلاني.
كما انخرط عدد كبير من المجاهدين والمناضلين الذين شاركوا في ثورة التحرير في التأليف في السيرة الذاتية، سواء بأقلامهم الشخصية بالنسبة للمثقفين منهم، أو بأقلام غيرهم من الكتاب الذين تولوا تحرير هذه السير نيابة عنهم بعد أخذ المعلومات المفصلة منهم، نذكر منهم: الحاج لخضر، مصطفى مراردة «ابن النوي»، عثمان سعدي «الرائد»، عمار ملاح، محمد الصغير هلايلي، عبد الحفيظ أمقران، محمد الشريف عبد السلام، محمد مهري، محند آكلي بن يونس، لويزة إيغيل أحريز، رشيد أجعود، زهرة ظريف «بيطاط»، نجادي محمد مقران، مدني بجاوي، محمد دباح، جودي لخضر بوالطمين، رابح مشحود، عفرون محرز، محمد الوردي قصباية، لخضر مزياني، جمال الدين ميهوبي، علي مزوز، محمد صايكي، وغيرهم.
هذا الكتاب ومؤلفه
في هذا السياق يأتي هذا الكتاب الذي بين أيدينا والذي يجمع بين دفتيه مذكرات رجل مخضرم، ولد وترعرع في جنوب الأوراس، ودرس في معهد ابن باديس، ثم في الزيتونة بتونس قبل الثورة، ليعود إلى أرض الوطن بعد اندلاع الثورة، ويشارك فيها ويتعرض للاعتقال لسنوات عديدة، وبعد الاستقلال انخرط في الإدارة العمومية، ثم في سلك التربية والتعليم إلى غاية تقاعده من الوظيف العمومي، واشتغل بعد ذلك بالمحاماة حتى قرر التقاعد النهائي من كل الوظائف بعد أن تقدم به العمر وصار يحتاج إلى الراحة التي باتت ضرورية له من عناء الحياة وتعبها.
هذا الرجل هو المجاهد والأستاذ فرحات نجاحي، ابن الأوراس مولدا ومنشأ وجهادا وتعليما، الذي أبى إلا أن يسجل ما مر به من أحداث في رحلة الحياة، ويلخص لنا تجربته وشهادته في كتاب موجز صدر مؤخرا بمدينة باتنة بعنوان «رحلة عمر مناضل من الأوراس»، حيث ألفه بعد أن تجاوز السابعة والثمانين من العمر. وقد جاء الكتاب مختصرا معتصرا، لأن المؤلف كان يسابق الزمن في تأليفه خشية أن يدركه الأجل قبل إتمامه، والحمد لله عز وجل أن مَدَّ في عمره حتى أنجزه وتابع تنضيده ومراجعته وتصحيحه بنفسه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يمتعه بالصحة والعافية وطول العمر في عمل الصالحات والمشاركة في الخيرات.
وهذا الكتاب هو الثالث للمؤلف بعد كتابيه الصادرين خلال الستة أشهر الماضية وهما: «الولاية الأولى التاريخية وشهادات عن قائدها البطل الشهيد مصطفى بن بولعيد» و«شخصيات ومناقب»، اللذين لقيا قبولا حسنا عند كل من اطلع عليهما وأحاط بما فيهما من مادة تاريخية وشهادات تُسهم في دعم مآثر الذاكرة الوطنية عموما والمحلية في منطقة الأوراس خصوصا.
فصول الكتاب
قسم المؤلف مذكراته هذه إلى تسعة فصول؛ تحدث في الأول منها عن حياته منذ مولده أواخر سنة 1932 وما كانت تعيشه عائلته – على غرار سائر العائلات الجزائرية – من ظروف في ذلك الحين تحت سطوة الاحتلال الفرنسي، ومشاهداته وذكرياته عن تلك المرحلة الباكرة من عمره، وكذا انتقاله رفقة عائلته إلى أكثر من مكان تبعا لعمل والده.
كما تحدث في الفصل الثاني عن طلبه للعلم والذي بدأ من بلدة مشونش على يد الشيخ أحمد تيمقلين السرحاني رحمه الله، واستمر في معهد الإمام عبد الحميد ابن باديس في قسنطينة الذي تتلمذ فيه على يد عدد من أعلام الجزائر، لتكتمل مسيرته في طلب العلم بالتخرج من جامع الزيتونة بتونس. وهنا أيضا يروي لنا بعض ذكرياته في مختلف هذه المراحل التعليمية التي مر بها.
في الفصل الثالث يسرد المؤلف الظروف التي دعته إلى العودة إلى الوطن على الرغم من رغبته في إتمام الدراسة في تونس أو في المشرق العربي، وهنا يخبرنا عن التحاقه بسلك التدريس في مدرسة التربية والتعليم التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ببسكرة والتي كان يديرها الأستاذ علي مرحوم رحمه الله.
وفي الفصل الرابع يكشف لنا عن انخراطه في العمل السياسي السري قبل الثورة في إطار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وفي إطار حزب الشعب الجزائري كذلك.
أما في الفصل الخامس فيحدثنا عن تكثيفه وتوسيعه لنشاطه السياسي بعد اندلاع الثورة، والأعمال التي كان ينهض بها، والشخصيات التي كان يتصل بها ويتعاون معها في هذا الإطار.
هذا النشاط لفت انتباه مصالح الاحتلال التي ما لبثت أن ألقت عليه القبض في مدرسته ببسكرة ونقلته إلى مدينة باتنة حيث زجت به في السجن في شهر ماي سنة 1955، ليتعرض للنقل بعد ذلك إلى عدة معتقلات في مناطق مختلفة من الوطن، ويمر بمحن وصعوبات جمة في هذه المعتقلات، ويتعرف إلى مناضلين كبار عرفوا مثله حياة الاعتقال والحرمان من أبسط الحقوق، من أمثال: المشايخ عبد القادر الياجوري ومحمد الصالح بن عتيق وحويذق مصباح ومحمد الطاهر الأطرش، والمناضلين: بشير بومعزة والحواس بوقادوم والعربي رولا وحرشة حسان، هذه الفترة من حياة المؤلف هي التي خصص لها الفصل السادس من مذكراته هذه، وقد أفاض فيها القول وعالجها من مختلف الجوانب.
في الفصل السابع يحدثنا المؤلف عن إطلاق سراحه في فبراير من سنة 1959، ولقائه بالمجاهد محمد الشريف جار الله وتنسيقه معه للالتحاق بالمجاهدين والانخراط في صفوف جيش التحرير الوطني، وكذا المواقف التي عاشها بعد تكليفه بمهمة القضاء في إطار نظام الثورة بمدينة باتنة، ثم التحاقه الفعلي بالجبل تحت قيادة سي محمد الشريف جارالله، والمواقف التي شهدها معه إلى غاية الاستقلال.
أما في الفصل الثامن فقد أجمل المؤلف كل ما مر به مما له صلة بمرحلة الاستقلال من حين وقف القتال إلى غاية تقاعده النهائي من مهنة المحاماة سنة 2012، وفيه حدثنا عن عمله كاتبا في مكتب محافظة الحزب بمدينة باتنة مع الشيخ محمود الواعي ومع غيره ممن خلفه في منصبه، ثم التحاقه بالتعليم في ثانوية عباس لغرور، وتكليفه بعد ذلك برئاسة دائرة مروانة، واستقالته منها وعودته إلى التعليم موظفا، ثم مديرا للتربية والتعليم والشباب بولاية بسكرة، ثم مفتشا عاما للتربية والتكوين بوزارة التربية، ليتقاعد بعد ذلك وينخرط في سلك المحاماة بعد حصوله على شهادة الليسانس في الحقوق، حيث قضى في هذه المهنة ستا وعشرين سنة، من سنة 1986 إلى سنة 2012، وهنا يحدثنا عن الأحداث التي عايشها في كل هذه المراحل والمواقف التي وقفها منها.
ويختم المؤلف مذكراته بخاتمة طريفة اعتبرها الفصل التاسع من الكتاب ووسمها بعنوان «أسفار وأفكار»، تحدث فيها عن أسفاره خارج الوطن وما سجله من مشاهد، وما انطبع في ذهنه من ذكريات وملاحظات أثبتها في مكانها وفق ترتيبها في السرد والتحليل. كما ضمنها جملة من الأفكار التي تعتبر خلاصة لتجربته في الحياة في وطنه الجزائر وما يراه من منظوره الخاص أجدى وأصوب أن تسير عليه الأمور في مختلف مجالات الحياة في هذه البلاد.
مزايا هذه المذكرات
هذا، وإذا كان لي من ملاحظات أسجلها على هذه المذكرات، بعد قراءتي لها ومساعدتي للمؤلف في مراجعتها وتدقيقها، فإني أؤكد على ما يلي:
1- قدم المؤلف للقارئ الكريم نظرة شاملة على حياته التي لم تقتصر على شخصه وحده، وإنما يمكن التعرف من خلالها على حياة عامة الجزائريين خاصة في مرحلة ما قبل الاستقلال.
2- لم يهتم المؤلف بذكر التفاصيل والجزئيات، وإنما اهتم بالكليات والعموميات، وحاول أن يركز على الأهم فالمهم، مراعاة للاختصار وبعدا عن الإطناب الممل والإسهاب الذي لا يتناسب مع الايجاز والتلخيص.
3- حرص المؤلف على تسجيل انطباعاته وملاحظاته على كل مرحلة من مراحل حياته، وهذا في الحقيقة هو الغرض الأول من كتابة المذكرات، فهي ليست مجرد سرد لأحداث أو كلام عن أشخاص وإنما هي عبر وعظات ينبغي للإنسان أن يستخلصها ويستفيد منها ليقدمها للآخرين لعلهم ينتفعون بها.
4- ضمن المؤلف مذكراته هذه الكثير من المواقف الصعبة والطريفة التي مر بها، تنويعا في العرض وتشويقا للقارئ لمواصلة القراءة إلى النهاية.
5- صاغ المؤلف مذكراته بلغة عربية رصينة وأسلوب جزل رفيع، ولا ريب في ذلك فهو خريج معهد ابن باديس وجامع الزيتونة حيث تلقى العلم على أيدي أساطين البلاغة في هاتين المؤسستين، كما أنه صقل معارفه اللغوية بقراءاته الكثيرة في مختلف فنون المعرفة عبر مسيرة حياته الحافلة.
لقد سعدت بقراءة هذه المذكرات واستمتعت بما سرده المؤلف فيها من مواقف وطرائف، واستفدت مما عرضه خلالها من تجارب، وتجاوبت مع ما قدمه من أفكار وأنظار.
حفظ الله أستاذنا الفاضل سي فرحات نجاحي ومتعه بالصحة والعافية وأمد في عمره ليقدم المزيد من تجاربه وخبراته في الحياة في مؤلفات أخرى.