في رحاب الشريعة

قــــوة الأمــــة ودوام أمنهــــا مرهـــــون باتحـــادهــا والاعتصــــام بكــتـــاب ربهــــا

الشيخ محمد مكركب أبران/


الخطأ الكبير الذي لا يقبل الاقتراب من أسبابه، ولا اللعب بالشرر في حدوده، ولا على هوامش ساحاته، في مجال السياسة الشرعية، وسيادة الأمم العظيمة، هو المساس بوحدة كيان الأمة، ووحدة دينها، ومبادئ دولتها، لأن الطعن في وحدة الأمة، إن حدث كان أخطر من خرق السفينة بركابها، وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام، ونَبَّهَ إلى خطورة التنازع بين أبناء الأمة، بأن في ذلك هلاك الجميع.[إن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا.] (مسلم.2889) قلت: وخرق وحدة الوطن، أكبر من خرق السفينة، وهلاك ركابها، ومن ثم لايجوز بأية حال من الأحوال ترك أسباب خطر المساس بوحدة الأمة. وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم، إلى وجوب منع اللاعبين بهذا الخطأ، والأخذ على أيديهم. فقال: [إِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ فَمَنَعُوهُمْ نَجَوْا جَمِيعًا وَإِنْ تَرَكُوهُمْ غَرِقُوا جَمِيعًا] (الترمذي:2173) لقد جعل الله سبحانه الشعوب والقبائل ليتعارفوا ويتآلفوا مع بعضهم، ويعين بعضهم بعضا، لا ليختلفوا ويستنزفوا قوة بعضهم، ويهلك بعضهم بعضا. هذا وإن العبر والعظات في التاريخ لكثيرة يشيب من مجرد ذكرها الباحثون، ولا يكاد يحصيها الدارسون، فالعشرات من قبائل الهند والفرس واليونان أكلتهم الحروب، وكم من قبائل العرب في جاهليتهم لعب بهم الفرس والروم، وقبائل اليهود كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا. ولاتزال إلى اليوم قبائل وطوائف توقد الحروب الأهلية في آسيا وإفريقيا في المشرق، والمغرب، وغيرهما. من طرف نزعات جاهلية وزعامات صعلكية.
إن التنازع الانقسامي أخطر على الأمة من الوباء، وأتعس على الأجيال من أي إيذاء أو شقاء. فكم هي الأنفس التي قتلت ظلما بسبب الحروب الأهليه، ما قبل الميلاد، في أسبرتة، وأثينا، وروم الشام، ثم قبائل الجزيرة العربية، ثم ما وقع في الأندلس، وما لايزال إلى الآن في اليمن والعراق والشام والصومال والسودان، إن الانشقاق شر من الانتحار، وجراثيمه من دسائس المنافقين والكفار، وينفذه الجهلاء والفجار.!!
فقد نهى الله سبحانه وتعالى عن التنازع والانقسام والتفرق، بين أبناء الأمة، فقال عز وجل: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال:46) ومن المعاني: لاتختلفوا ولا تخالفوا أمر الله سبحانه، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم. فإن حدث خلاف أو اختلاف، حدث الفشل، وهو الرسوب، والانهزام، والخسران، وتذهب ريحكم، لايتحقق نصركم، ولا يستقيم أمركم، ولا يدوم مجدكم، إن دام نزاعكم بينكم.
ففي الاتحاد قوة، وفوز، وأمن، وازدهار، وفي التفرق ضعف وخسران وانهيار. فمثل الأمة المتضامنة في أخوة ووحدة سياسية وإقليمية، مثل جسد الإنسان الكامل الصحة والسلامة والتمام، وكلما تمرد جزء من الأمة على سائرها، كان ذلك الجزء كالعضو المشلول الحامل للسقم القاتل فلا هو يسلم ويرتاح، ولا الجسم تبقى له صحته. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:[مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى](مسلم:2586) فكل فرد، أو حزب، أو فرقة، أرادت أن تكون ذلك العضو المشلول السقيم في جسم الأمة، كان لابد من علاجه قبل أن ينتشر عدوى مرضه في الجسم. فالمؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يشُدُّ بعضُهُ بعضًا، فإذا ما تنازعا انهدم البنيان. قال الله تعالى:﴿وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ (المؤمنون:52) فهل استجاب كل الناس؟ واتحدوا وتآخوا وتعاونوا على البر والتقوى؟ لا، أبدا فبعض الأحزاب من جسم هذه الأمة الكبيرة انقسموا وتمردوا فسوقا وعصيانا، منذ قرون، وكانوا سببا في تخلف الأمة، ودوام سيطرة الكافرين وطغيانهم على المؤمنين. قال الله تعالى: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ فهل انقسامهم وتمردهم والإساءة إلى وحدة الأمة ينفعهم، لا، أبدا فهم يتبطرون وقتا، إلى أن يضحك عليهم الشيطان ثم يندمون وينتهون، قال الله تعالى:﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ﴾. ولذلك نهى الله تعالى عن الغرور والبطر والخروج للقتال عصبية. فقال:﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ.﴾ في القرن الخامس عشر والسادس عشر، واستمرت الفتن حتى القرن العشرين للميلاد، أن بعض الجماعات، وبعض الأنظمة، وبعض الأحزاب والزعماء والفرق المريضة بوباء العصبية العرقية، غرهم الكافرون، وطَمَّعُوهم بالمال والأماني الكاذبة، وحرضوهم على شعوبهم والخروج على أمتهم، بالضبط كما فعل الشيطان للمشركين الذين زين لهم أعمالهم يوم بدر، فكان مصيرهم الخسران المبين. ماذا يفعل اليهود الكافرون؟ يفعلون فعل عصابات المخدرات، يغرون أحد الزعماء الذين ينشقون، يعطونه مبالغ من المال، وقناطير من الوعود، ويدعونه إلى إعلان الخروج والحرابة، ويزودونه بالسلاح، وفائدة الكافرين في ذلك: إشغال المسلمين مع بعضهم، وتدمير قدراتهم الاقتصادية، وأنهم يبيعونهم السلاح ليكسبوا المال، والمسلمون الذين يسقطون في لعبتهم يهلكون بعضهم، كما أخبر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وجاء تشبيه الفتن من الشرك، والكفر، والتقاتل الجاهلي بين القبائل المتحاربة كالساقطين في حفر النار. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾
وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من التعصب والعصبية العرقية والحزبية المقيتة. فقال:[فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ إِلاَّ أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟ قَالَ: وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللهِ] (الترمذي.2863).
فإقامة الأخوة بين المسلمين فريضة مقدسة، ومنها ما يعرف بالوحدة الوطنية. فلايجوز لولاة أمور المسلمين أن يتهاونوا في إقامة وحدة الأخوة، ومنه الوحدة الوطنية، وجمع الأمة على الوحدة الدينية الإسلامية، إيمانا، وشريعة، وأخلاقا، وتربية، وتعليما، واقتصادا، ومن سعى في مخالفة الأخوة الدينية والمجتمعية بين المسلمين، فقد خان، وفسق عن أمر الله الذي قال وقوله الحق:﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.﴾ (الحجرات: 9،10) وأمر الله سبحانه بالاجتماع والاتحاد وعدم التفرق والانقسام، فقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com