الرّعاع والأشراف: بين الفقه والأعراف/ د.محمد عبد النبي
التحدّث إلى الناس من موقع التعليم والإرشاد غدا أمرا أقرب إلى الصناعة التي تُكتسب، فلا يقربها جاهل أو دعيّ، فيُكشف، أو إلى الفنّ الذي يُتقن، فلا يمارسه غِرّ أو هاو، فيُفتضح، وما أُتيت الأمة إلا من قِبل أقوام تقحّموا المجالس والميادين، وخاضوا في كل شيء بما لا علم لهم به، فاختلط الحابل بالنابل، وقد يتّفق أن يُقبل الناس عليهم، وأن يُعرضوا عمن يتوجّب عليهم أن يستمعوا إليه، وتلك من علامات انقلاب الأحوال: أن يعتلي الأمرَ مَن ليس له علم ولا خبرة ولا أمانة، ثم نسأل عن سبب التخلّف، أو يُرمى بالتهمة به مَن لا يُعرف إلا بالعلم والتجربة والإخلاص!
أخرج البخاري (/8/168) عن ابن عباس قال: “كنت أُقرىء رجالا من المهاجرين، منهم: عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب، في آخر حجة حجّها، إذ رجع إليّ عبد الرحمن فقال: لو رأيتَ رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا (يقصد طلحة بن عبيد الله، كما ذكر ابن حجر) فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يَغصبوهم أمورهم (أي: يثِبون على الأمر بغير عهد ولا مشاورة) قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رَعاع الناس وغَوْغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قُربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يُطيِّرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلُصَ بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها، فقال عمر: أما والله – إن شاء الله – لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة…”
وقال البخاري في صحيحه (1/37) “باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا” ثمّ أورد أثرا عن علي بن أبي طالب يقول فيه:”.. حدثوا الناس، بما يعرفون، أتحبون أن يُكذّب، الله ورسوله”.
المنصوح بهذا الكلام هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فاروق هذه الأمة، ومَن يُضرب به المثل في إقامة العدل على سنن النبوة إلى يوم الدين! والناصح هو عبد الرحمن بن عوف، وليس ابنَ عباس، الأول من أثرياء الصحابة، والثاني من علمائهم، على حداثة سنّه، ويبدو أن للخبرة -التي يكتسبها الكبار عادة- هي السبب في فقه هذا الأمر والتفطّن له، أو أن ابن عبّاس-لصغر سنه- لم يجرؤ على مفاتحة الخليفة عمر، بهذا الذي فاتحه به ابن عوف.
والملاحظة الثانية: هي أن الخليفة عمر-بالرغم من علمه وخبرته وموقعه- لم ينتبه لما انتبه له عبد الرحمن بن عوف، وهذه هي فائدة أن يكون للخليفة جلساء ومستشارون، ينبِّهونه إلى ما جلّ ودقّ من الأمور، وليست وظيفتهم كيل المديح و التطبيل لعبقرية الممدوح، وعلمِه الذي لا يدانيه فيه أحد !
ومما ينبغي ملاحظته ثالثا أن مصطلحي”الرعاع” و “الغوغاء” استُعملا من قبل صحابي كبير، عن أناس حضروا إلى الحج، وهم في عداد طبقة التابعين، ومع ذلك لم يتعقّب الخليفة ابنَ عوف على هذا الوصف، ولم يَعتبر أحد من الصحابة – ومن بعدهم- هذا الأمر إهانة، ذلك أن الأمر طبيعي أن يحضر في الموسم طبقات من الناس، وفيه الجاهل والعالم، بل إن هذه الحيثية هي التي جعلت ابن عوف ينصح الخليفة بإرجاء كلمته إلى حين رجوعه إلى المدينة النبوية، قال:” وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يُطيِّرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلُصَ بأهل الفقه وأشراف الناس…” الذين يفهمون ما تقول، ويقدّرونه قدره، ومع أن الكلام سُمع من أحدهم والناس في المشاعر، إلا أن توجيه الأمة ينبغي أن يكون في الحاضرة الكبرى حينها، أو العاصمة باصطلاحات اليوم، فصداها يتردّد هناك، أو قد يكون الرجل آفاقيا، وسمعها من مدني، ولو أَلقى عمر كلامه في جموع الحجيج لأثار من اللغط والاضطراب أكثر مما يتوقعه من الهدوء والطمأنينة.
ذكر ابن الملقن في التوضيح (31/218) أن الحديث:” يدل أنه لا يجب أن يوضع دقيق العلم إلا عند أهل الفهم له، والمعرفة بمواضعه، دون العوام والجهلة”. وأضاف:”وفيه دليل أنه لا يجب أن يُحدّث بحديث يسبق منه إلى الجهال الإنكار لمعناه، لما يُخشى من افتراق الكلمة في تأويله…وفيه دليل على أن أهل المدينة مخصوصون بالعلم والفهم، ألا ترى اتفاق عمر مع عبد الرحمن على ذلك ورجوعه إلى رأيه”.