ذكرياتي عن أستاذي الدكتور ناصر الدين سعيدوني/أد. مولود عويمر
لقد استعدت في هذا المقال شريط الحياة، واستحضرت بعض الذكريات الراسخة في ذاكرتي عن أستاذي القدير ناصر الدين سعيدوني (1940). وحديثي عنه ليس في حقيقته حديث شخصي، وإنما كل الطلبة الذين درسوا عنده يشاركونني ما سأقوله عنه في الصفحات التالية.
أستاذ خارج السرب
عرفت الدكتور ناصر الدين سعيدوني للمرة الأولى في عام 1988 في معهد التاريخ بجامعة الخروبة، وكان عمره آنذاك قريبا من سني الآن أو ربما كان أقل، لكنني كنت أتمثله سقراط أو ابن خلدون عاد من أعماق التاريخ ليحدثنا عن الحكمة والأخلاق، فيحرك فينا الهمة وحب العمل الدؤوب، ويزرع فينا الأمل في مستقبل مشرق.
كان متميزا في أداء واجبه. فرغم مرور ثلاثين عاما على هذه الأحداث، فما تزال صورته حاضرة الآن أمامي يصول ويجول على خشبة المدرج، وهو يلقي علينا محاضراته في وحدة منهجية التاريخ ومدارسه بصوته الجهوري وبأسلوبه الرشيق. فحدثنا عن تطوّر المنهج التاريخي عبر العصور، وشرح لنا أهم المدارس المختلفة في تفسير التاريخ. وقد صارت هذه المحاضرات جزء من كتابه القيّم “أساسيات منهجية التاريخ”، والذي يعتبر حقا من أهم المراجع في هذا المجال المعرفي.
لقد كنا متعلقين به وننتظر حصته كل أسبوع بفارغ الصبر لنسافر معه بدون تذكرة عبر الزمن، نتوقف في بجاية لنسمع ابن خلدون يحدثنا عن نظريته في العصبية والأطوار الثلاث للدولة، ونتوقف في نابولي (إيطاليا) لنسمع الفيلسوف الإيطالي فيكو يشرح لنا نظريته حول تطوّر التاريخ عبر 3 مراحل: عصر الآلهة، عصر الأبطال، عصر الإنسان. وكذلك ننزل في برلين (ألمانيا) لنسمع حديث هيغل عن روح التاريخ التي تنتقل بين الأمم لتصنع الحضارات…الخ.
أحاديث عن معاوية وريشليو وبرودل
كان الأستاذ سعيدوني يجد الحديث عن معاوية بن أبي سفيان والكاردينال ريشيليو متعة لا تعادلها متعة أخرى. فإذا كنت أعرف الأول فإنني كنت أجهل تماما الثاني. وسأكتشف بعد سنوات قليلة تاريخ هذه الشخصية الفرنسية الفذة، وأتعرف على أهم أعماله مثل جامعة السوربون العريقة، وقاعتها الكبيرة التي تحمل اسمه اليوم، وكذلك المكتبة الوطنية في باريس التي تقع في شارعه الرئيسي.
ونوّه الأستاذ سعيدوني مرة في محاضرته بمؤرخ فرنسي كبير اسمه فرناند برودل، وأثنى كثيرا على جهوده العلمية في تطوير المنهج التاريخي. وتذكرت في الحين أنني قرأت منذ سنوات قليلة مقالا في مجلة “العربي” الكويتية بعنوان “برودل عاشق البحر المتوسط” للباحث المصري الدكتور أحمد أبو زيد لكنني لم أقدر في تلك الفترة المبكرة الأهمية التي كان يستحقها ذلك النص من القراءة، وما يتطلبه من الجهد للفهم.
ومن هنا لم أتردد في نهاية الأسبوع من السفر إلى البلد لكي أبحث في مكتبتي عن هذا المقال لقراءته عدة مرات على ضوء درس الدكتور سعيدوني. وما زال المقال محفوظا في أوراقي إلى اليوم. وقد فتحت لي هذه القراءات الجديدة آفاقا أخرى في عالم المعرفة، ثم حقل البحث العلمي فيما بعد.
لذلك لما سافرت سنوات من بعد إلى فرنسا لمواصلة دراساتي العليا، كان كتاب برودل الشهير “البحر الأبيض المتوسط في عهد فيليب الثاني” هو أول كتاب استعرته من المكتبة الجامعية وقرأته بشغف كبير. فازداد تقديري لهذا المؤرخ الفرنسي الكبير ومدرسته المعروفة بـ “الحوليات”، وكان الفضل في ذلك لأستاذي سعيدوني الذي ذكّرني يوما به، ودلني على أهمية أعماله وقيمتها العلمية.
تشجيع الطلبة على القراءة والكتابة
والخصلة الملفتة أكثر للانتباه في أستاذنا سعيدوني هي تواضعه رغم مكانته الإدارية (مدير المعهد) ومقامه العلمي العالي (رئيس المجلس العلمي)، ويكفي أن أقول هنا أنه كان يقدم لنا نسخة من بعض مسوّدات مقالاته (مقالات الرأي) لنقرأها ونعطي له رأينا فيها قبل أن يرسلها للنشر في الجرائد. هكذا كان يعلمنا نحن الطلبة معنى التواضع، ويشجعنا على النقد، ويحثنا على الاجتهاد، ويدفعنا نحو التعاون المثمر مع الآخر.
لقد أسس في معهد التاريخ مجلة جديدة سماها “مجلة الدراسات التاريخية”، واستغل قوة المنصب كمدير للمعهد لتوزيع العدد الأول على الطلبة المجتهدين. وأصدر منها 12 عددا ثم توقفت في بداية التسعينيات لأسباب عديدة. وشاءت الأقدار أن أشارك في إعادة إصدارها في عام 2011، وأعمل نائبا لرئيس تحريرها الدكتور الحاج العيفة، رئيس قسم التاريخ.
كانت أول قراءاتي الجدية لأعماله بدأت في هذه المجلة ثم في “الأصالة” و”الثقافة”، وأذكر هنا بالخصوص مقاله حول الحركة الصهيونية في الجزائر خلال فترة الاحتلال. ثم قرأت عددا من كتبه في إطار المطالعة أو من أجل إعداد بحوث جامعية في مرحلة الليسانس، خاصة كتبه الآتية: “دراسات في الملكية العقارية في العهد العثماني”، “معجم مشاهير المغاربة”، “النظام المالي للجزائر (1792-1830)”، …الخ.
كان الأستاذ سعيدوني يسافر كثيرا خاصة نحو الخارج، وقد حرص دائما على أن يحدثنا خلال المحاضرة أو على هامشها عن سفرياته، ويشاركنا مشاهده وخواطره. ففتح علينا نافذة نطل منها إلى العالم الخارجي الذي نجهله تماما.
لقاءات ومناقشات
لقد بعدت بيننا المسافات والأحوال بعد تخرجي في عام 1991، فسافر إلى الكويت للتدريس في جامعتها، بينما سافرت إلى فرنسا لمواصلة دراساتي العليا. وانقطعت عني أخباره ما عدا ما كنت أقرأه من مقالاته وكتبه الجديدة، أو ما تصلني من أخباره عن طريق صديقنا الأستاذ سعدي بزيان الذي كنت ألتقي به في معهد العالم العربي بباريس.
في عام 2003، كلفت بإعداد عدد خاص للمجلة الفكرية “رؤى” الصادرة بباريس عن المفكر مالك بن نبي بمناسبة الذكرى الثلاثين لوفاته، استكتبت مجموعة من العلماء والباحثين في الجامعات العربية والأوروبية، وكان في مقدمتهم الدكتور ناصر الدين سعيدوني.
رحب الأستاذ بالدعوة ووعدني بالمشاركة وتراسلنا في هذا الشأن عدة مرات. وصدر العدد في شتاء 2003 وفيه 16 بحث ودراسة ساهم فيه الدكتور سعيدوني بمقال عن ” مالك بن نبي وحرب 1967″.
وبعد عام، ساهمنا مع بعض في الكتاب المهدى للمؤرخ الفرنسي الكبير أندري ريمون الذي أشرف عليه الباحث والمؤرخ التونسي الدكتور عبد الجليل التميمي، فكتب الدكتور سعيدوني بحثا عن “نظام الحماية في الأبراج العثمانية ببلاد القبائل” بينما كتبت بحثا عن “نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في فرنسا 1936-1956”.
تجدد لقائي بالدكتور ناصر الدين سعيدوني في بداية عام 2005 بقسم التاريخ بجامعة الجزائر التي حضر إليها لمناقشة مجموعة رسائل جامعية. فكانت علاقاتنا خلال هذه السنوات الماضية قائمة فقط على المراسلات والقراءات المتبادلة لبحوثنا خاصة التي صدرت بتونس في “المجلة التاريخية المغاربية”.
وقد استمرت علاقاتي بالأستاذ سعيدوني ولم تنقطع خلال السنوات، ونتواصل بالهاتف. وإذا انشغلت أحيانا صبيحة يوم العيد الفطر أو الأضحى ولم أتصل به بادرني بالمكالمة الهاتفية لمعايدتي كما كان يفعل أيضا معي –في نفس الحالة- أستاذنا جميعا الدكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله.
كنت أزوره أحيانا في بيته ببوزريعة برفقة بعض الأصدقاء: فريد بنور ومحمد دراوي وعبد الباسط قلفاط، فكان دائما كريما يستقبل ضيوفه ببشاشته المعهودة. وكان قلما يتحدث عن الماضي بل يتكلم معهم في كل مرة عن المستقبل والإصدارات الجديدة والمشاريع القادمة كتاريخ الجزائر الاجتماعي الاقتصادي، وموسوعة دائرة المعارف الجزائرية.. وكان يشاركنا الحديث أحيانا عدد من الأصدقاء، مثل الأستاذ سعدي بزيان والأستاذ علي تابليت.
في عام 2014، قام الدكتور ودان بوغفالة الأستاذ بجامعة معسكر بإعداد كتاب جماعي المقدم إلى أستاذنا سعيدوني، فاتصل بي هذا الأخير وطلب مني المساهمة فيه. وقد سعدت بذلك، ونشرت بحثا عنوانه: “المغرب العربي من خلال جريدة الشورى المصرية (1924-1931)”.
مسار قلم
لا شك أن المتتبع للمسار العلمي للدكتور سعيدوني يعرف أن قلمه لم يتوقف عن الكتابة منذ أربعين سنة، وأصدر عددا يكاد لا يحصى من المقالات والدراسات والكتب بين تأليف وترجمة وتحقيق خاصة خلال الفترة التي قضاها في الكويت بين 2001 و2011.
وصارت اهتماماته تزداد توسعا إلى جانب تخصصه في الدراسات العثمانية التي أصدر حولها مجموعة من الكتب القيّمة تمثل اليوم دائرة معارف في هذا الحقل المعرفي، وتشكّل مكتبة للباحثين المتخصصين، أذكر منها: “ورقات جزائرية: دراسات وأبحاث في تاريخ الجزائر العثماني”، “تاريخ الجزائر في العهد العثماني”، “ولايات المغرب العثمانية”، “النظام المالي للجزائر أواخر العهد العثماني”، “الملكية والجباية في الجزائر أثناء العهد العثماني”، “الوقف في الجزائر أثناء العهد العثماني”، …الخ.
اهتم بحضارة الأندلس وكشف مظاهر تأثيراتها في الجزائر. وكتب عن أدب الرحلة، وترجم كتابا قيّما في هذا المجال وهو “رحلة العالم الألماني ج.أ. هابنسترايت إلى الجزائر وتونس وطرابلس”. كما ترجم كتابا مهما متصلا بالقضية الفلسطينية، وهو “الاستيطان اليهودي في فلسطين. مراحله ومصاعبه” للباحث هاينز فيشر. واهتم بالأعلام ورموز العلم والثقافة في المغرب والأندلس في الفترات القديمة والحديثة، فأصدر في هذا الشأن كتابين نفيسين، وهما: ” من التراث الثقافي والجغرافي للغرب الإسلامي”، و”عصر الأمير عبد القادر”. ونشر مقالات عن العلماء والمؤرخين المعاصرين: محفوظ قداش، وعمار هلال، وإسماعيل العربي، وعبد الرحمان شيبان، وروبير مونتران، وأندري ريمون…الخ.
وفي مجال التحقيق، نشر الأستاذ سعيدوني كتابين: “القول الأوسط في أخبار بعض من حلَّ بالمغرب الأوسط” للشيخ أحمد بن عبد الرحمان الشقراني الراشدي، و”قانون أسواق مدينة الجزائر 1695-1705″ لمتولي السوق عبد الله بن محمد الشويهد.
غير أن أهم الكتب التي أحرص على الاستفادة منها أكثر-ربما بحكم تخصصي في تاريخ الفكر المعاصر- هي المؤلفات التالية: “في الهوية والانتماء الحضاري”، “في الحراك الثقافي والتفاعل الفكري”، “الجزائر منطلقات وآفاق”، “في الشأن الخلدوني”، “أساسيات منهجية التاريخ”.
هذه إطلالة سريعة على بعض ذكرياتي مع الدكتور ناصر الدين سعيدوني، واستعراض بعض أعماله وليس كل أعماله الغزيرة في المجالات المتعددة، وخاصة ما له صلة بتاريخ الجزائر الحديث، وهو تخصصه الدقيق.
إن الدكتور سعيدوني هو حقا أهل لكل تقدير وعرفان، وأن أعماله الرصينة هي أيضا جديرة بأن تنال مكانا مرموقا في مكتبات الجامعات الجزائرية والعربية والعالمية.