صناعــــة القـــادة …صنــاعـــة النصــــــر
يكتبه: حسن خليفة/
شهدت الأيام القليلة الماضية، كما يعرف ذلك الجميع وكما تابعه من يعنيهم أمر الأمة ومستقبلها؛ خاصة فيما يتصل بمستقبل الصراع الكبير بين المسلمين وأعدائهم اليهود الصهاينة..شهدت معركة كبيرة دارت رحاها على أرض فلسطين الحبيبة، دامت أكثر من عشرة أيام كاملة، كانت قاسية وعنيفة وحادة، ليلها كنهارها وصباحها كمسائها …عنف ودمار وتخريب وتدميروقتل مارسه العدوّ الصهيوني بوحشية وإجرام لا نظير لهما، وذلك من طبيعته في الأصل؛ فهو ذو طبيعة إجرامية معروفة على مدار التاريخ قديما وحديثا .
غير أن ثمة ما يستلفت النظر في هذه الحرب وهو ذلك البروز الكبير للصمود والمقاومة وقوة الإرادة التي واجه بها الشعب الفلسطيني من خلال الفصائل المسلحة وحشية المستدمروإجرامه المنفلت ..كما أن ثمة ما يستلفت النظر أيضا ـ على صعيد آخر ـ لمن يريد أن يعرف بعض أسرار هذه المقاومة الباسلة والمواجهة القوية العنيدة والثبات الأسطوري الذي ظهر به أبناء الشعب الفلسطيني عامة، وطلائعه المقاومة بصفة خاصة.
ودعنا ندخل إلى هذا الأمر من خلال مدخل غير عادي..وهو أبو عبيدة (كمثال ورمز) والذي تحدث مرات قليلة ، فكان العالم يستمع إليه ويأخذ كلامه على محمل الجد، بمن في ذلك العدوّ المتغطرس الجبان قاتل الأطفال والنساء والشيوخ ، ومدمّر المشافي والمدارس والمؤسسات التربوية والإعلامية(تم تدمير نحو 18 ألف وحدة سكنية ـ و20 مشفى وعيادة ـ و22 مؤسسة إعلاميةـ وأكثر من 30 مدرسة ـمع نحو ثلاثمائة شهيد من بينهم 62طفلا و40 سيدة وأزيد من 4000 جريح …).
لاحظ المتابعون «طلاقة» أبو عبيدة في الكلام وعربيته الفصيحة الجميلة المرتبة، وسلاسته في الحديث والخطابة ،دون تلعثم ولا تردد ولا رُهاب، ولاحظوا قوته في الطرح، والتسلسل الأنيق في كلامه وعباراته، وعمق المعاني التي يعبر عنها بألفاظه السلسة ..طبعا مع الصدق في كل لفظة ومفردة، والمصداقية في كل ما قال …حتى التحديد الدقيق لبعض التواقيت في إطلاق رشقات الصواريخ على البلدات والمدن .
أتصـوّر أن ما تجب ملاحظته ،أبعد من ذلك ،وهو يتعلق ابتداء بكيفية صناعة هذا القائد الميداني وأمثاله كثيرون؟.
كيف تمّ ذلك؟ ومتى ؟وما هي الأساليب التي اعتُمدت في ذلك ؟ وما طبيعة هذه الصناعة المعنوية/الإنسانية الثقيلة الوازنة؟ .
نعم …إن ما يستوجب الملاحظة ليس بالضرورة ما يتعلق ـ فقط ـ بالحديث الطلق بالعربية الفصيحة الرائعة، والاقتدار على الإفصاح والكلام القوي الموزون..إنما ما وراء ذلك، وهو كثير ومهمّ وباذخ في التعبير عن «أسرار صناعة الإنسان «المسلم المقتدرالذي يعيش عصره ويعي متغيراته وموازينه ، ويعيش ـ قبل ذلك دينه وقيّمه ـ …
إن ما يستوجب الاهتمام هنا هو عدد من المفردات : كالهندسة النفسية ،والقيم الإنسانية والإيمانية الرفيعة، والثبات، والقوة ، والجرأة، والاقتدار ، والكفاءة ، وحسـن الأدارة وقوة التدبير والتسيير، وعلى الإجمال :عموم مكونات الشخصية القوية الملتزمة المقتدرة القائدة .
إنها منظومة متكاملة في لوحة كبيرة لافتتها العريضة : «صناعة الإنسان» ، أو فلنقل «صناعة القادة» الذين هم بالفعل جنود الجيش المكافيء للعدو الصهيوني المتغطرس..القادر على مواجتهه، والوقوف في وجهه، مع الاخذ في الحسبان اختلال الموازين(الأرضية) بين الجانبين، بما لا يتيح لنا المقارنة إطلاقا، ومع ذلك أمكن «تخريج» هذه الدفعات من القادة النجُب ، ذوي المؤهلات غير العادية الذين أخذوا بأسباب تحقيق المرادات ، وتهيئة وتوفير البيئة الإيجابية، والمعايير المعنوية والأخلاقية والروحية ، بما جعل الكفة ترجح للإنسان ..للدم ..للإرادة التي لا تنكسر،للعزيمة، للأخلاق، للقيّم وليس للتفوق العسكري والمادي والمالي …والإسراف في التدمير والتقتيل ، والإمعان في التدميرتأسيسا على التفوق (الجوي) وأعداد الطائرات ونوعيتها، والتي أمطرت أرض غزة بأكثر من 60 ألف قذيفة نارية حارقة مدمّرة، واستهدفت أكثر من 500 موقع مدني وإنساني..لكن مع ذلك باءت بخسارٍ معنوي وأخلاقي ومادي رهيب .
يستوجب الأمر ها هنا توقّفا وطرح التساؤلات الموجبة والهامة: كيف تحقق كل ذلك ؟ والجواب الكبير .تحقق بفضل الله تعالى أولا ، ثم بـ «صناعة الإنسان» وصناعة القيادات المناسبة المقتدرة، القوية، الثابتة ، المتبصّرة…وذلك هو الأصل في مبتغى النهضة والتغيير وصناعة المستقبل الذي تنشده أوطاننا كلها في العالمين العربي والإسلامي. الأصل هو صناعة الإنسان على هذا النحوالمتكامل الوضيء الذي يضمن ـ بعون الله ـ تحقيق الأهداف الاستراتيجية في عودة الأمة إلى سكة القيادة والتأطير والريادة ، كخير أمة أخرحت للناس، وكأمة منوط بها حمل الدنيا كلها على السمو إلى مدارج الكمال الإنساني ، وضمان العيش الكريم لكل الناس، في كنف الوئام والتعايش والإنسانية والمحبة، دون بغضاء ولا حروب ولا مسارعة لتكديس الأسلحة والغدروالعدوان والتوسع الإجرامي كما تفعل دولة الصهاينة..ومن يرعاها من دول الغرب وحكوماته المتواطئة.
أبو عبيدة شاب فلسطيني لافت، وأمثاله كُثرفي قيادات الفصائل الفلسطينية المتنوّعة المشارب ، لكنهم أيقونات في مجال العمل التغييري الحقيقي المستقبلي أثبتوا جميعا أنه في الإمكان ـ فعلا لا قولا ـ إحداث التغيير ، وإسقاط المؤامرات المحلية والإقليمية والدولية ، وإيقاظ الهمم، وتجسير الفجوة بين أبناء الشعب الواحد، والقدر على المحافظة على المقدّسات …وتغيير الموازين والمعادلات.
فهل ننخرط في هذا السبيل الذي هو أفضل السبل لصناعة التغيير الإيجابي الحقيقي لأوطاننا، ومن ثمّ لأمتنا الإسلامية التي نُكبت بقيادات رديئة ونُخب سامة ومسمومة ، ووكلاء يوالون المجرم الأجنبي البعيد، ويعادون الشقيق القريب ذا الرحم ..؟.
من الضروري أخذ هذا الدرس وأضافته إلى برامج العمل الدعوي والاجتماعي والديني والثقافي والوطني في أوطاننا بالارتقاء إلى هذا المستوى وإيلاء شبابنا مايستحقونه من إعداد حقيقي وتكوين قويم .
الأمر واضح بيّن : صـناعة القادة …تعني صناعة التغيير ..كماتعني صناعة النصر، في كل الميادين وعلى كل الجبهات.