الثروة المهدورة في حياة الأفراد والدول والمجتمعات!
أ. الطيب برغوث/
ينسب إلى الحسن البصري، رحمه الله، وإلى غيره هذا القول البليغ الرائع في فقه الوقاية من غفلة النفس أو غرورها، وكذا فقه وقاية الأعمال والمؤسسات والدول والمجتمعات، من الضعف والفشل، فقد قال رحمه الله تعالى:” لأن تصحب أقواماً يخوفونك حتى تبلغ المأمن، خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى تبلغ المخاوف”.
ولهذا كان الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، وهو أحد أمناء أسرار النبي، عليه الصلاة والسلام، يقول في أجواء التأسيس لهذه القاعدة الجليلية والتفعليل لها في إدارة الحياة: “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني”، لأن من احتاط من المخاوف، وانتبه إليها مبكرا، وحول ذلك إلى حاسة سادسة عنده، أمَّن نفسه وعمله، وبلغ المؤمن بإذن الله تعالى.
الحياة وعيون الوعي السنني الثلاث: فالفقه السنني يعلمنا بأن نتحرك دائما بثلاثة أعين مفتحة ويقظة وذكية، إحداها على العمل القائم لتجوِّده وتجعله أكثر خيرية وبركة ورحمة بشكل مستمر، والأخرى على معوقاته ومهدداته التي يمكنها أن تؤثر سلبا على مضمونه ومسيرته ومآلاته، والثالثة على تحسين شروط الاستفادة من العون والتأييد الإلهي في كل هذه المراحل، فإذا افتقد أي عمل فردي أو جماعي، صغير أو كبير، هذه اليقظة، وهذه الكفاءة النفسية والروحية، وهذه القدرة الثلاثية الأبعاد، أو ضعفت فيه، تحرك نحو المخاوف والضعف وضآلة الفعالية والخيرية والبركة والرحمة العامة، كما تقول هذه القاعدة المهمة، التي ينبغي أن تتحول إلى منظومة فقه سنني كلي كبير في حياة المسلمين أفرادا ومؤسسات ودولا ومجتمعات.
اليقظة الثلاثية الأبعاد ومنطق المدافعة والمداولة: فحركة الأفراد والمؤسسات والدول والمجتمعات والأمم والحضارات، كلها تتم ضمن مقتضيات وشروط وحاجات وتحديات قانون المدافعة والمداولة الحضارية، الذي يفرض هذه اليقظة والفطنة الموضوعية العالية على البشر عامة، بلا تمييز أو استثناء، ويعطيهم أو يسلب منهم بحسب مطابقة أنفسهم وجهدهم مع مقتضياته وشروطه، أو تقصيرهم وتفريطهم في ذلك، كما يقول العلامة رشيد رضا تعليقا على هزيمة المسلمين في أحد: “مشيئة الله تعالى في خلقه، إنما تنفذ على سنن حكيمة وطرائق قويمة، فمن سار على سنته في الحرب – مثلا – ظفر بمشيئة الله وإن كان ملحدا أو وثنيا، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا”!
فمن غفل عن مقتضيات قانون المدافعة والمداولة، أو جهله، أو تجاهله، أو أراد أن يناجي ويسمَع نفسه فحسب، وأن يراها كما يهوى وليس كما هي، أو كما يجب عليها أن تكون، أو يوهمها بأنها مستثناة من منطق سنن الله في المدافعة والمداولة الحضارية، ولم يستفد من خبرات وتجارب ودروس وعبر الماضي القريب والبعيد، ولم يوطِّن نفسه على الاستفادة القصوى من تتبعات خصومه وتفتيشاتهم على الصغيرة والكبيرة في عمله وحياته، قبل الاستفادة من نصائح وخبرات محبيه والمشاركين له في الهم والاهتمام، قاد نفسه نحو الضعف سريعا أو على مكث، ولن يكتشف الحقيقة المرة المؤلمة إلا بعد فوات الأوان، ودفع الأثمان الباهظة!
الحياة والثروة الثمينة المهدَرة: وما أكثر ما يستفيد الإنسان من خصومه وأعدائه، وينتفع منهم انتفاعا جما، إن كان ذكيا وناضجا وموضوعيا، أكثر مما يستفيد من أصدقائه ومحبيه والمنتفعين منه، لأنهم يجاملونه، وربما يشاركونه نفس العقلية والنفسية والرضا عن النفس والجهد، فلا ينتبهون مثله إلى نواحي القصور والضعف الحاصلة في جهده وجهدهم، أو المحتملة الحصول، وقديما انتبه الإمام الشافعي، رضي الله عنه، إلى هذه الحقيقة أو السنة النفسية المهمة جدا، فصاغ ذلك في بيت شعري رائع، هو أقرب إلى قاعدة أو قانون عام، قال فيه:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
فالرأي الآخر فينا وفي جهدنا، وموقفه منا، مهما كان فيه من ألم ومرارة وأذى أحيانا، إلا أنه لا يخلو من فوائد جمة، لا يمكن أن نكتشفها أو نصل إليها في ظل منطق الرضا الزائد عن النفس والجهد، أو منطق العادة والألفة الغافلة، أو منطق التحسس الزائد من أي مساس بحالة الرضا الذاتي الذي يهيمن على حياتنا في كثير من الأحيان، والذي يدفعنا لاشعوريا في كثير من الأحيان، إلى سرعة مواجهة ما نعتبره أو نتوهمه مساسا بنا، ودفعه بشكل كلي جهول، دون التأمل فيما قد يكون فيه من فائدة جمة لنا!
وقد اشتهر منطق تجاهل ما يقال، كثيرا في أجواء البلوليتيك، حيث كثيرا ما يعلق السياسيون على مواقف معارضيهم أو خصومهم، بعبارة “لا حدث”! دون أن يكلفوا أنفسهم أدنى تمعن في المقول، وما فيه من فائدة وخير وبركة، مفوتين بذلك على أنفسهم وعلى جهودهم، وربما على دولهم ومجتمعاتهم، فرصا كبيرة وثمينة، قد يكون لها ما بعدها.
تبعات الجهل بهذه الثروة والهدر لها: ولعلنا نحن في الجزائر لنا مع عبارة “لا حدث” الشهيرة! التي تلخص منطق الرفض والتجاهل والجهلوتية الفارغة، تاريخ مألم مستمر في حياتنا بكل تداعياته القاسية بل والمرعبة أحيانا، حيث يتذكر كل الجزائريين على سبيل المثال، تعليق السلطة الجزائرية التي قادت الانقلاب على الإرادة الشعبية في 1992، وأدخلت البلاد في مأساة وطنية مهلكة، بعبارة “لا حدث”! على وثيقة روما التي خرجت بها نخبة من السياسيين والمثقفين الجزائريين للمساهمة في مواجهة تفجر المحنة الوطنية والتقليل من أضرارها الفادحة، وقد أثبتت تداعيات المحنة وتكلفتها الغالية بل والرهيبة، مدى أهمية بعض ما جاء في هذه الوثيقة فعلا، وهو ما تطالب به الهبة الوطنية الكبيرة التي انطلقت في 22 فبراير 2019 من أجل تصحيح بعض الانحرافات الخطيرة التي حدثت في بناء الدولة الوطنية، ومن ثم في إدارة المجتمع، وتسببت في حرمان المجتمع الجزائري من تحقيق ولو المرحلة الأولى من مسيرة نهضته الحضارية حتى الآن! وهي مرحلة وضع البنية التحتية الفكرية والنفسية والروحية والثقافية والسلوكية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتينة المتماسكة، التي ترتكز عليها بقية مراحل هذه المسيرة النهضوية الطويلة المدى.
فمجتمعنا وبعد ستين سنة تقريبا، لم ينجح في بناء نظام اقتصادي متماسك فعال، كما لم ينجح في بناء نظام تربوي متماسك فعال، ولا نظام ثقافي حيوي فعال، ولا نظام سياسي ديمقراطي حقيقي شفاف وفعال، ولا نظام اجتماعي ملتحم ومتماسك الشبكة الاجتماعية، ولا نظام حقوقي قانوني عادل ومتماسك .. وما يزال يعتمد في كثير بل وفي جل ضروريات حياته، على مورد اقتصادي واحد، هو شريان حياته، إذا توقف توقف شريان حياته!
فمنطق التجاهل والرفض الجملي أو الكلي للرؤية الأخرى فينا وفي أعمالنا مهما كان نوعها، يهيمن كثيرا على مواقفنا وتصرفاتنا، ويجعل منا جزرا معزولة بعضها عن بعض، ومستقلة بعضها عن بعض، ومستغنية بعضها عن بعض، من حيث نشعر أو لا نشعر، وهو ما يفوت علينا فرصا كثيرة للفهم والتفاهم، والاستفادة من بعضنا البعض، حتى في حالة الخصومة والعداولة، فما بالك في الحالة الطبيعية العادية التي هي الغالبة في حياة الناس! ويعطي فرصة لخصومنا وضعاف النفوس فينا للإضرار بنا وإضعافنا والعبث بمقدراتنا.
الحاجة الماسة إلى تنمية الوعي بكون النقد العام والخصامي منه خاصة هدية ثمينة: والفكرة الأساسية التي أود أن أؤكد عليها في هذه الخاطرة، هي أهمية الانفتاح على الرأي الآخر فينا وفي أعمالنا وجهودنا، وخاصة إذا كان منافسا أو خصما أو عدوا لنا، فإن في طياته فوائد جمة، لمن تفحصه وسبر غوره! وقد رأيت من خلال تجربتي الخاصة، وقراءاتي الواسعة، وتأملاتي في حياة الناس، أنه ليس هناك مطور ومجوِّد للأفكار والأعمال والحياة بصفة عامة، كالنقد عامة والبناء منه خاصة، والنقد الصادر عن منافسة أو خصومة وعداوة بصفة أخص!
فكثير جدا من الناس نجحوا، وكثير من المؤسسات نجحت، وكثير من الدول والمجتمعات نجحت.. لأنها استفادت من النقد عامة، والنقد الحجاجي الخصامي العدواني الهدام خاصة! ولم تصم آذانها عنه، بل تفرست فيه، وتفاعلت معه، وأبدعت في مواجهة الخطأ فيه، وفي الاستجابة المباشرة وغير المباشرة لما فيه من صواب وفائدة. وقديما قال الشاعر:
وإذا أراد الله نشرَ فضيلة
طويتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ
وقد كان سيدنا عمر بن الخطاب الخليفة الملهم، رضي الله عنه، ينهر من يريد منع منتقديه من انتقاده، ويقول لهم:” دعوهم يقولونها! فلا خير فيهم إن لم يقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها!” بل وتجاوز هذا السقف السنني العالي إلى ما هو أعلى منه وأنضج في فقه سنن الله تعالى في إدارة النفس والدولة والمجتمع، وهو اعتباره النقد له هدية لا تعوض بثمن، تستدعي الدعاء لصاحبها بالمزيد من الهداية، كما جاء ذلك في مقولته الذهبية الشهيرة: “رحم الله أمرأ أهدى إلي عيوبي”!
ولا يضيقن أحد دائرة هذه الهدية في المسلمين فحسب، بل ينبغي تركها واسعة، لأن النقد المفيد بشكل مباشر أو غير مباشر، يأتي من المسلم وغير المسلم، وقد يكون ما يأتي من غير المسلم أقوى وأفيد في كثير من الأحيان، لشراسته وقوته ودقة تفتيشه على العيوب والنواقص!
إن الانفتاح على النقد البناء والنقد الحجاجي الخصامي العدائي، ثروة مهمة جدا، لمعرفة الآخرين، ولمعرفة النفس وتطويرها ورفع كفاءة وفعالية وخيرية وبركة ورحمة مستويات أدائها، وتحقيق النجاح المطلوب في الحياة، فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بها، وأن يتسبب في إهدارها دون أن يستفيد منها في حياته.
فلنوطن أنفسنا على هذه الرؤية السننية الهامة، ولنحرص على الاستفادة مما يقال فينا وعنا من منافسينا وخصومنا، بل وأعدائنا، ناهيك عن المشاركين لنا في الهم والاهتمام. فإن في ذلك فوائد جمة لا تقدر بثمن، لمن انفتح عليها وصبر على منغصاتها وآلامها ومتاعبها، وما أكثر الأدوية الشافية ذات الطعم المر، بل والعلقمي أحيانا! والخلاصة كلها جاءت في قوله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة : 216]. وقوله سبحانه: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}[النساء: 19].
فاللهم ألهمنا وأعنا وقونا وبارك لنا في كل أمورنا.