لا تحسبوه شرا لكم…
يكتبه د. محمّد قماري/
تتوالى الأخبار الحزينة من فلسطين الجريحة لتذكر الأمّة الإسلامية بعجزها، الوظيفي بوصفها أمّة فاعلة تقول فيسمع لها، وتغضب فتخشى غضبتها، وتقف فيتوجس أعداؤها من وقفتها، أما وضعها الحالي الذي انحدرت إليه فلا يخيف عدوا ولا ينصر صديقًا، وضعٌ وصفه صاحب الرسالة، صلى الله عليه وسلم، بـ(الغثاء)، فلقد نقل ثوبان، مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قوله: (يُوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: (حب الدنيا، وكراهية الموت).
إنَّ القرآن الكريم وصف لنا حال يهود، وتشبثهم بالحياة على أية شاكلة كانت: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ « (البقرة/96) هكذا جاء التعبير (حياة) نكرة وهو تعبير موحٍ، بأن القوم لا يعبؤون بـ(نمط) الحياة الكريمة بل كل همهم الحفاظ على حياة على أي شاكلة كانت، وواضح من الحديث الشريف والآية أنها ليست دعوة لمخاصمة الحياة، أو كرهها، لكنها دعوة للحياة (الطيبة) الكريمة التي يكون فيها الإنسان فاعلاً، يؤدي واجباته كلها ولا يفرط في حقوقه كلها وهو يتقاسم العيش المشترك مع غيره…
صحيح أن المسلمين أفرادًا يعلنون تأييدهم لإخوان في فلسطين، وربما يسكبون الكثير من الدموع في خشوع وهم يرون أشلاء النساء والأطفال والشيوخ، لكن دمع العين سلاح الضعفاء على حد ما قال المتنبي قديمًا:
بِأَبي الوَحيــــــدُ وَجَيشُهُ مُتَكاثِرٌيَبكي وَمِن شَرِّ السِــــــلاحِ الأَدمُعُ
وَإِذا حَصَلتَ مِنَ السِلاحِ عَلى البُكافَحَشاكَ رُعتَ بِـــــهِ وَخَدَّكَ تَقــــــرَعُ
لقد عاد يهود في العصر الحديث إلى تراثهم الديني، وبنوا دولة أطلقوا عليها اسم (إسرائيل) وهو اسم سيدنا يعقوب، عليه السلام، ومضوا يستنطقون التوراة المحرّفة وصنوها التلمود ليؤسسوا واقعا جديدا على أرض فلسطين المغتصبة، لكنهم بالموازاة تفننوا في تسخير موارد الكون وفقا للأبحاث العلميّة، ومنها تقدموا أشواطًا في الصناعات المدنيّة والحربيّة، وأصبح لهم أئمة على رأس كل فن علمي جديد سواء في داخل الكيان المغتصب أو كبرى عواصم الدنيا…
ولأن سنن الله لا تحابي الكسالى، ولا تنتصر لمن فسدت بواطنهم بالمعاصي الحضارية، فإن الغلبة كانت حليفًا ليهود، ففي الوقت الذي لا يرى فيه المسلم (الباكي) غضاضة في تحصيل شهادته العلميّة بالغش، ويكسب قوته بالسحت، وينشغل بالمسائل الفرعية في الدين، يعمل أولئك على التفنن في الطاقات المتجددة، وأنظمة الروبوتيك والنانو، والذكاء الاصطناعي في تسيير المصانع والمنشآت والتجسس على الأفراد والدول…
إن دولة إسرائيل واحة لكرامة الإنسان (اليهودي) في امتداد جغرافي يهين كرامة الإنسان، ويصادر حقه في إبداء رأيه أو اختيار من يتولى شؤونه المحلية أو في هرم الدولة، وتلك هي المعادلة المختلة بينهم وبين أعدائهم، فهم لا يتنكرون لماضيهم وشهود أحياء يصنعون حاضرهم أو كما تساءل المرحوم الشيخ الغزالي ذات يوم: هم بنو إسرائيل فبنو من نحن؟
ومع كل ذلك وقبله، فإن مقاومة الاحتلال الاستيطاني، وهذه التضحيات التي يقدمها أهل فلسطين تؤشر إلى وجود نبض في شريان الحياة، وأن الكيد الذي يزيل الجبال يربكه ذلك النبض، فتخدير (الوعي) والاجهاز على ما تبقى من حصون الأمّة لم ولن يتحقق، ومسيرة التطبيع (القسري) الذي تصادر من خلاله بعض الأنظمة ذلك الوعي، كل ذلك يسقط ويتدحرج مع لزوجة دماء الشهداء، ويهوي إلى قاع سحيق…
إن القراءة المتأنيّة لما يحدث تخبرنا بأن وراء المشهد المنظور على ما فيه من مأسوية، نفحة أمل بل بشائر فجر تهتك خيوطه ظلمة الواقع المظلم، والمقاومة في بيت المقدس المبارك وما حوله، تنشب أظفارها في جسد المتآمرين عليه وتفسد خططهم، وتقرر رسم خريطة مغايرة للمستقبل، وأن الوضع الراهن لا يعدو أن يكون جزءا من لوحة مغايرة لم تكتمل…
مخطئٌ وقاصر نظر من يعتقد أنه يمكن تصفية قضية تحملها ضمائر أفراد الأمة، وتتناقلها الأجيال خلفا عن سلف، وما هذه الدماء الزكية إلا تطعيم للمناعة المكتسبة عبر الزمن، توقظ في الوجدان روح التحدي، ومؤذنة بتجاوز وضع (الغثاء) الذي تعبث به الريح.
إنه لقدر حكيم يمضي، فلو رسم البشر ألف خطة، ما كان لها أن تحدث ما يحدثه هذا الاستفزاز الصهيوني الذي لا يقيم لشرائع الأرض ولا لشريعة السماء حرمة، فلا تحسبوه شرا لكم بل هو خير مضمر وهذه خميرة نضجه.