نَاسٌ لِلتَّدْمِيرِ ونَاسٌ لِلتَّعْمِيرِ، ومَنْ دَمَّرَ فَلَنْ يُعَمِّرَ
أ. لخضر لقدي/
حكى القرآن قصة مدينة «ثَمُودَ» التي كان فيها «تِسْعَةُ رَهْطٍ» من عُتاة القوم من أبناء الأشراف وعظماء المدينة تمحَّضوا للإفساد وتحالفوا عليه فكانوا يفسدون بكل طريق يقدرون عليها ولا يصلحون، استطاعوا تكوين مجتمع الفساد، وتجرؤوا على الباطل، وتحدوا نبي الله فنشروا الفساد والظلم واتفقوا على قتل الناقة فعقروها، وسفكوا الدِّماء ووثبوا على الأموال والفروج، وتلاعبوا بالدراهم والدنانير فكسروها (كانت العملة يومئذ دنانير ذهبية ودراهم فضية فكسروها ليحولوها إلى ذهب وفضة).
والرَّهْط في اللغة هو الجماعة ما دون العشرة، ويجمع على أرْهاط وأَرْهُطٌ، وفي موروثنا الشعبي ترتبط كلمة رهط بكل فاسد منتحل محتال، وتطلق عبارة «رهوط مايلة» على المحتالين والناهبين والمنتحلين والأوغاد الذين يفسدون كل شيء ويسلبون كل شيء بالخداع والغشّ.
والمفسد أضراره واسعة وهو شبيه بالجراد الذي يلتهم أضعاف حجمه، يأكل ما وجده، ولا يبقي ولا يذر، فالسرب الواحد منه يلتهم في الكيلومتر الواحد حوالي 100 ألف طن من النباتات الخضراء في اليوم، وهو ما يكفي لغذاء نصف مليون شخص لمدة سنة.
وكذلك يفعل المفسد حين يدمر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإدارية وقد يتعدى فساده للحياة الدينية فلا يُبقي على شيء صالح في هذه الحياة.
والحاكم ابن البيئة وانعكاس لطبيعتها، وفساد الرعية من فساد حاكمها وصلاحها من صلاحه، غير أن الله ابتلى شعوبنا بحكام يرون أنفسهم صالحين لتسيير دفة المجتمع أينما كانت وجهتها، يركبون موجة الاشتراكية فإذا كسد سوقها، ركبوا موجة الرأسمالية، وغير بعيد أن يركب بعضهم موجة الإسلام إذا هبت ريحه وقد رأينا ذلك ونراه.
والشعارات والمظاهر خداعة، والناس سرعان ما ينسون وأسهل ما يخدعون، ولن يخدع الناس لو أخذوا بالقاعدة القرآنية التي تنص :{إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}.
وكيف يهتدي المعتدي، وهو محجوب عن ربه الذي يقول:{كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}.
ولله در ابن بسام البغدادي حين قال:
أَيُرجَى بالجراد صلاحُ أمرٍوقد جُبِلَ الجرادُ على الفسادِ.
وكيف يُعَمِّرَ مَنْ دَمَّرَ؟، جاء في كتاب «الناس أجناس» لسلام الراسي اللبناني: يُحكى أن السلطان العثماني سليمان القانوني طلب أن يؤتى إليه بمهندس موثوق بعلمه وأمانته، فجيء إليه بمهندس من أصل أرمني اسمه «خوجة معمار سنان آغا «عهد إليه بهدم إحدى السرايات القديمة وإنشاء سرايا جديدة مكانها.
بعد الانتهاء من تشييد هذه السرايا، استدعاه السلطان وقال له: «عندما كنت تهدم السرايا استخدمت عمّالاً ثم استبدلتهم بعمّال آخرين في البناء، فلماذا فعلت ذلك؟؟»… أجابه المهندس: «ناس للتدمير وناس للتعمير، ومن يصلح للتدمير لا يصلح للتعمير»… وأُعجب السلطان بحكمة المهندس وعيّنه مستشارا أو وزيرا، وقد أسلم وشيّد أعظم مباني الدولة العثمانية، منها مساجد وجوامع ومدارس ودور تحفيظ للقرآن ومستشفيات وجسور وقصور ومخازن وحمامات، وكان أكبر معماريي عصره.
والعبرة هنا واضحة، إذ لا يجوز أن يتولّى الذين دمّروا البلاد إعادة إعمارها، لأن من يصلح للتدمير لا يصلح للتعمير.
والمتأمل لأحوال أكثر دولنا يلاحظ استمرار الفاشلين في تسيير الدفة مع تغيير للشعارات والمظاهر، وأَنَّى يبسط الأمن ويأتي الرخاء، ويدفع الخطر، وهؤلاء لا يحسنون تدبيرا ولا عملا، ولا يملكون كفاءة ولا دراية.
وقد قال أبو فراس الحمداني:
كَيفَ أَرجو الصَلاحَ مِن أَمرِ قَومٍضَيَّعوا الحَزمَ فيهِ أَيُّ ضَياعِ
فَمُطاعُ المَقالِ غَيرُ سَديدٍوَسَديدُ المَقالِ غَيرُ مُطاعِ
وقد كتب الخليفة الخامس عُمر بن عبد العزيز إلى عامله عبد الرحمن بن نُعَيْم ينصحه في سطر واحد: «أما بعد؛ فاعمل عمل من يعلم أنَّ الله لا يُصْلِح عمل الْمُفْسدين…» وصيامكم مقبول إلى أن يطلع البدر علينا.