
د. بدران بن الحسن *
جاء الإسلام ليحرر الإنسان من الطغيان؛ طغيان نفسه وهواها، وطغيان الإنسان على الإنسان، وطغيان المادة، وطغيان الشيطان، وكل طغيان آخر يحد من حرية الإنسان في سلوك طريق الخير، أو يحد من سيره إلى رضوان الله.
وإذا كان التوحيد يوحد وجهة الإنسان نحو ربه، ويسخر له الكون، ويجعله ينال مرتبة التكريم كما أرادها الله له، فإن العبادات والشعائر وسائر شرائع الإسلام تقوم على تزكية الإنسان وترقيته سلوكيا وروحيا وعقليا ونفسيا وجسديا، بحيث تحافظ إنسانيته على صورتها التي فطره الله عليها، ليتمكن من تحقيق ذاته، ومعرفتها، ومعرفة ربه، وتحقيق الخير في الأرض، وحمل الأمانة باقتدار، فيحقق عمران العالم.
وشعيرة الصوم من شعائر الله التي كتبها على الأمم التي قبلنا، وكتبها علينا لنحقق التقوى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]؛ فننقي أنفسنا من كل ما يضرها ظاهرا وباطنا، وليس هناك أضر على الإنسان من أن يتبع نفسه هواها، فتهوي به في كل مرتكس، وفي كل واد. ولهذا كان رمضان ركنا من أركان الدين، التي تمثل مدرسة للتربية على ضبط النفس وتهذيبها وانضباطها.
فرمضان مدرسة لتعلم كثير من الأخلاق والالتزام بها، لتحقق مقاصدها في حياتنا، فتصير شعائر الله محقق لمصالحنا في دنيانا ومجتمعاتنا وأسرنا، كما هي محققة لمصالحنا في الآخرة رضوانا من الله وجنة ونعيما.
التربية على الإرادة وضبط النفس:
جاء في الحديث في مسألة ضبط النفس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال:فيُشفَّعان»(رواه أحمد).
إنه تدريب صارم على ضبط رغبات النفس وشهواتها وتطويع النفس لما يرضي الله وما يحقق مصالح الإنسان، وبناء للإرادة، بحيث يكتم الإنسان في نفسه ليس عن الشهوات الحرام فحسب، بل عن الشهوات الجلال، فيمتنع عنها رغم حاجته إليها، ولكن يضبط نفسه بقوة الإرادة التي يبنيها فيه رمضان، الذي يصومه طوعا وامتثالا وإيمانا واحتسابا لله تعالى.
إن شخصا يخضع لمثله هذه التجربة التربوية لحري بأن يكون حرا من تقلبات مزاجه، وطغيان شهواته الظاهرة والباطنة، ولحري بأن يرتقي ليتحمل مسؤوليات البناء الاجتماعي والحضاري باقتدار، فلا ترغب نفسه بعدها فيما ليس له.
التربية على التسامح والعفو:
كما أن رمضان يدرب الإنسان على كتم الغيض، والتجاوز عن المشاحنة، احتسابا لله، ورغبة في رضاه؛ جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل:كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم…»(رواه البخاري ومسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام جُنة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين» (البخاري ومسلم).
إن هذه الشعيرة التي تربينا على مسامحة من يقاتلنا، ومن يشتمنا، ومن يسبنا، والتجاوز عن البغضاء والشحناء، لهي شعيرة علينا أن نفرح بها، ونحتفي بها، وننتبه إلى أن الله يربينا بها، ويهيئنا لنكون أعضاء صالحين في الأسرة، وفي المجتمع، وفي العالم، فنحافظ على «شبكة العلاقات الاجتماعية» من أن تمزقها تلك المشاحنات أو الأخلاق السيئة أو التقاتل من أجل أمور لا تستحق أن يقاتل من أجلها الإنسان، لأنها من سقط متاع الدنيا، وليس من أجل نصرة حق أو هزيمة باطل أو نصرة مظلوم.
تهذيب الكلام والتزام الصدق:
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أيضا قوله: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»(رواه البخاري)، ليعلمنا أن الامتناع عن الأكل والشرب فقط ليس مزية تجعلنا في مقام الصائمين الطائعين، بل أن ذلك لا يكتمل ما لم نصم عن قول الزور، والعمل بالزور.
وهذه تربية نبوية غاية في الأهمية؛ ذلك أن الامتناع عن الأكل والشرب يتعب الجسد، ولكن لا يحقق المقصد من الصوم، إذا لم يكن مصحوبا بالتزام الصدق، والعمل بالخير. فإن قول الزور والعمل به فجور ما بعده فجور يؤدي إلى أن يفرغ ذواتنا من أي قيمة، كما أنه يفش كل الأمراض في المجتمع، ويؤدي إلى فقدان الثقة بين الناس، وعلو الظلم، وأكل أموال الناس بالباطل، وهذه كلها مؤذنة بخراب العمران، الذي لا يمكن للإنسان أن يحقق مصالحه العاجلة والآجلة، فالإنسان اجتماعي بطبعه كما يقول ابن خلدون، والزور قولا وعملا مما يمزق هذا الوجود الاجتماعي.
التربية على الجود والكرم:
وإذا كان الحديث السابق يحضنا على الامتناع عن قول الزور وفعله، فإن هذا الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجرِه غيرَ أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا»(رواه أحمد وأصحاب السنن)، فإنه يربينا على الكرم وفعل الخير والبذل، ويؤلف بين القلوب، ويرب أنفسنا على الإيثار، لأن النفس أحضرت الشح. فإذا انتشر الكرم والجود والإيثار بين الناس، ساد بينهم التناصر، كما كان بين المهاجرين والأنصار، والتحمت لحمة المجتمع، وكان أعضاؤه كأعضاء الجسد الواحد توادا وتراحما وتعاطفا، وتلك هي الإنسانية السامقة التي تربينا عليها شعيرة الصوم.
تأمل معي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، التي ذكرناها، وغيرها لم نذكره كثير، لترى أن هذه الشعيرة العظيمة مدرسة كبرى للتربية على الفضائل وتخليص أنفسنا من الرذائل.
والله أعلم.
*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر