العمل والبطالـــة والحــــركات الاجتماعيــــة في ظلّ الاقتصاد المعولـــم
د: ياسين مشتة*
يبدو جلياً، أنّ العولمة الاقتصادية كما تتجسد واقعياً ليست سوى مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية، أو هي الشكل المتقدم لرسملة العالم، حيث يسود نمط العولمة بواسطة السوق، وضمن هذا السياق فإن هدف العولمة الاقتصادية هو تحويل العالم إلى عالم يهتم بالاقتصاد أكثر من اهتمامه بأي أمر حياتي آخر بما في ذلك الأخلاق والقيم الإنسانية التي هي في تراجع تدريجي تاركة المجال للعلاقات السلعية والربحية النفعية، وأصبحت لا تولي أي اهتمام بالموارد البشرية التي لا تستجيب لتلك المبادئ، إذ تتركها في عالم الضياع، فإذا ما خصصنا حديثنا عن عالم الشغل، فإن لقائل أن يقول إن من أثمن مكاسب العولمة هو التقدم التقني، ولا يختلف اثنان حول هذه الحقيقة، لكن تبعاتها وأثارها السلبية هي أيضا حقيقة، فإذا كان هذا التقدم يسمح بزيادة إنتاج الخيرات فإنه بالمقابل لا يسمح بخلق مناصب الشغل، بل قد يتسبب في القضاء على بعضها وذلك استجابة لما يتطلبه التقدم التكنولوجي الهائل، ونتيجة للقوة المتعاظمة للاقتصاد المعولم الذي يرتكز على الاحتكار التكنولوجي والمالي والمعلوماتي من طرف أقلية… فإن القوة التفاوضية للعمال وممثليهم انكمشت إلى حدودها الدنيا، ونلاحظ في هذا الاتجاه الاستراتجية التي تبنتها الحركة النقابية مع الحركة الجمعوية وبالأخص الحركة النسوية باعتبارها من أبرز الحركات الاجتماعية إنطلاقا من تسعينات القرن الماضي كنتيجة حتمية لضعف القدرات التفاوضية للحركة النقابية بعد تفكك سوق العمل والعادة تشكله من جديد مرتكزا على عنصر الكفاءة، واضمحلال وتلاشي المؤسسات العمومية التي كانت تمثل مهد الحركة النقابية خاصة بعد تراجع أسعار المحروقات التي كانت تمثل العصا السحرية التي كانت تلجا إليها البلدان المنتجة للنفط لسد الثغرات في النشاط الاقتصادي، من هذا المنطلق أصبحت العولمة العدو اللدود للعمال، حيث أصبح اكتساب التكنولوجيا على حساب العمال، وأصبحت هناك علاقة عكسية بين الأتمتة والآلية من جهة، وبين العمالة من جهة أخرى، في هذا الإطار نستشهد بالمثل الانجليزي الشهير when a ma Chinese moves in a worker moves out بمعنى عندما تدخل الآلة يغادر العامل، في هذا الإطار ما يمكن أن نلاحظه أن أصحاب المؤسسات الكبرى لا يأبهون بالجانب الإنساني بقدر ما يهتمون بالأرباح فقوة العمل بالنسبة إليهم تمثل سلعة تباع وتشترى وواقعة تحت هيمنة قانون العرض والطلب، ويتمظهر ذلك من خلال إقدام بعض المؤسسات على الاستغناء على جزء من العمال في إطار تبني استراتجية الانكماش، فقد أغلقت على سبيل المثال لا الحصر شركة جنرال موترز في الولايات المتحدة 21 معملاً وسرّحت أكثر من ألفي عامل وألف إطار، كما ألغت شركة ibm 20 ألف منصب عمل كما ألغت الصناعة الحربية الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة أكثر من نصف مليون منصب شغل، وحتى تتمكن شركة الاتصالات الألمانية من الإبقاء على قدراتها التنافسية يقدر الخبراء بأنّه يتوجب عليها تسريح أكثر من 100 ألف عامل ونفس الشيء بالنسبة لشركة الاتصالات البريطانية التي يتوجب عليها حسب المختصين تسريح أكثر من 113 ألف عامل، كما بلغت نسب البطالة في فرنسا حوالي 12,3% وهي نسبة لم تبلغها من قبل، من خلال هذا العرض يتضح جلياً أن أعداد العمال المطرودين وفرص العمل الضائعة متشابهة في الاتحاد الأوروبي وأمريكا، حيث قامت العديد من المؤسسات بغلق أبوابها وتسريح عمالها، أما ما تعلق ببقية البلدان فحدث ولاحرج. وهذا يؤدي إلى انضمام فئات جديدة من العمال إلى عالم البطالة ومن ثمّ يؤدي ذلك إلى اتساع رقعة الفقر والحرمان، وما يثير الانتباه أن إحالة عامل على البطالة يعني الزج بعائلة متكونة من خمس أفراد في المعدل إلى مستنقع الفقر والحرمان. وهذه الظواهر يمكن تفسيرها بنظرية قطع الدومينو بحيث أن اتساع ما يسمى بأممية رأس المال أدى إلى اتساع رقعة الفقر الذي أصاب الكثير من الفئات المتوسطة والدنيا وهذا ما يفتح الباب على مصراعيه لانتشار الكثير من الأمراض الاجتماعية انطلاقاً من الانحراف إلى الجريمة والمتاجرة في المخذرات. كما يؤكد الحبيب الجنحاني أنه في ظلّ ظروف مثل هذه زادت تجارة الرقيق والمتمثلة في زيادة النازحين إلى البلدان الغربية بطرق غير مشروعة، ونسمع بصورة تكاد تكون يومية أن عدد كبير من الشباب في مقتبل العمر ابتلعتهم أمواج البحار والمحيطات أو يلفظون أنفاسهم في قوارب الموت فيتم اكتشافهم جثثاً هامدة في براميل مغلقة مرمية مع السلع أو مجمدة في ثلاجات ضخمة… والشواطئ الجنوبية لأمريكا مثلها مثل الضفة الشمالية للمتوسط أو بحر الشمال شاهد على ذلك .
إن هذه الظواهر واستفحالها هي نتيجة حتمية لانتشار ظاهرة البطالة والفقر بين فئات عريضة، وهي نتاج السياسات المتبعة من طرف الدول والمؤسسات الضخمة، والتي تفرضها ظاهرة العولمة، بحيث أصبح الاقتصاد هو المسيطر على مختلف مفاصل الحياة بالرغم من وجود مقاومة شديدة ولكنها لازالت غير كافية، بحيث أصبحت الشركات المتعددة الجنسيات تهدد اقتصادات العديد من الدول في العالم فعلى سبيل المثال لا الحصر يفوق رقم معاملات جنرال موترز الدخل الوطني الخام للدنمارك، ويفوق رقم معاملات فورد الدخل الوطني لدولة جنوب افريقيا، كما يفوق رقم معاملات تويوتا الدخل الوطني للنرويج، هذا ما يجعلنا لا نستغرب أن يتحول قادة الدول إلى خدم في بلاط أممية رأس المال، ولنا أن نعلم أنه من بين أكثر من 100 اقتصاد قوي في العالم نجد أنه أكثر من 50 اقتصاد لا ينتمي إلى دول وإنّما لشركات متعددة الجنسيات، في ظلّ هذه المعطيات نلاحظ بروز أصولية جديدة هي أصولية السوق، والاقتصاد المعولم ساهم في بروز حركات اجتماعية متطرفة وسياسية، يتم استغلالها في الكثير من الأحيان من طرف متطرفين سياسيين أو دينيين، والشواهد التاريخية والواقعية في بعض الدول الأوروبية خير دليل على ذلك حيث نلاحظ تنامي اليمين المتطرف في شكل حركات النازيين الجدد في ألمانيا والولايات المتحدة، أو تحت مظلة أحزاب سياسية تتوزع عبر انحاء أوروبا.
فمن زيغانوف في روسيا ولوبان في فرنسا إلى هايدر في النمسا وامبيريتو بوسي في إيطاليا أو وينستون بيترز في نيوزيلندا وغيرهم كثيرون .
ونلاحظ بروز الحركات الاجتماعية كنتيجة حتمية للاقتصاد المعولم الذي أدى إلى انتشار البطالة والفقر وتراجع دور الحركات النقابية واهم هذه الحركات نجد الحركات المتطرفة سياسيا ودينيا كما أشرنا إلى ذلك سابقا ونمو الحركة النسوية ودخولها في تحالف مع الحركة النقابية هذا ما أدى إلى تراجع دور المنظومة القيمية فنسجل انهيار قيم الأسرة، انتشار الجريمة وتضخم السجون.
نحضر الآن إلى ما يسمى عولمة الحركات الاجتماعية فقد استطاعت هذه الأخيرة إعادة لم شملها واستطاعت أن تقف في وجه العديد من المؤسسات المالية الكبرى على غرار المنظمة العالمية للتجارة.
*دكتور في سوسيولوجيا العمل . –جامعة الجزائر 2