الوفاء لابن باديس

عبد العزيز كحيل/
أنا وفيّ لابن باديس، وأعتقد أن جميع الجزائريين المحبين لدينهم ولغتهم وبلدهم أوفياء له، وإنما يبتعد عن هذا الوفاء من لا يحب الإسلام والعربية والوحدة الوطنية، مهما كانت ذرائعه ومسوغاته، والوفاء لابن باديس يتجاوز الشخص – ومكانته عالية وقدره محفوظ – إلى ما يمثله من مشروع إصلاحي أصيل وجهاد متواصل كبير في سبيل مشروع واضح القسمات.
في ذكرى تأسيس جمعية العلماء أعلن وفائي لابن باديس ولشعاراته الخالدة:
– الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا.
– شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب.
– أعيش للإسلام والجزائر.
هذه الشعارات تجعلني أميّز بين مشروع باديس ومشروع باريس الذي أبقى أناهضه ما حييت، ولا أفهم وفاء أحد لجمعية العلماء وجهادها الثقافي والتربوي إلا بهذا الشكل.
والوفاء للشيخ الإمام لا يكون بإقامة صنم له – فهذا من الأشياء التي حاربها هو طول حياته لمخالفتها لأحكام الشريعة، إضافة إلى أنه من الناحية الجمالية تمثال غاية في السوء أضاف مسحة بشعة إلى قسنطينة وأساء إلى صورة الشيخ الإمام رحمه الله – ولكن بإحياء مشروعه النهضوي المبني على هوية صلبة واضحة المعالم تنتظم أبناء الشعب جميعا وتعادي الاستعمار بكل أشكاله، وخاصة تركته الثقافية التي ما زالت ترهقنا بتغريبها لحياتنا وإفسادها لكل جميل فينا، من اللغة إلى الذوق.
وفاؤنا لابن باديس ليس معنويا فحسب بل هو تمسك شديد بمشروعه ومبادئه وأخلاقه وبرنامجه الإصلاحي الذي ينتظم الفرد والأسرة والمجتمع طولا، وينتظم الإنسان وفكره وعواطفه وسلوكه عرضا، كما ينتظم كيان الأمة ووجدانها عمقا، ويتمثل في:
– إحياء معاني الرجولة، فقد وصف الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله زميله وسلفه على رأس الجمعية بأنه كان فنّا في الرجولة، تلك القيمة السامية التي يتميز بها الفحل فيستحق القوامة على المرأة والرفعة في الدنيا والكفاءة لتسيير شؤون المجتمع، إضافة إلى مكارم الأخلاق والأنفة والعزة لتصنع شخصية فذة تصلح للملمات، تبادر وتبتكر وتصمد أمام الزوابع مهما كانت هوجاء…وهكذا كان ابن باديس في مشواره الإصلاحي الذي انتظم حياته كلها، فإذا غابت الرجولة على المستوى الفردي غابت على المستوى الاجتماعي وخلا الجو للرويبضة، وليس من الوفاء للشيخ أن نترك كتاب ربنا وسنة نبينا وثوابت آبائنا و نُسلِم مقادنا طائعين مطأطئي الرؤوس للوافد الغربي والأقلية المنهزمة نفسيا و الممسوخة حضاريا التي تعبث بحياتنا ومقوماتنا وشخصيتنا، من البيت إلى سدة الحكم مرورا بالمدرسة والإعلام، ونلاحظ بكل أسف كيف ضاعت الرجولة في كثير من الأحيان وبقيت الذكورة، فضاعت الأنوثة بمعانيها السامية فتاه المجتمع وكاد يضيع.
– إحلال الإيجابية محلّ السلبية في حياتنا: يجب أن نطلق السلبية، لا ينبغي أن نجعل كل حياتنا نقدا للأفراد والهيئات، لا نكتفي بتتبع العيوب وإحصاء النقائص فهذا يحسنه كل أحد، وإنما تعلمنا من ديننا وابن باديس أن نكون إيجابيين فاعلين، نصطف مع قضايا الأمة، ونعبّر بالقول والعمل عن تمسكنا بالإسلام والعربية والوحدة الوطنية وعن رفضنا كل ما يمس انتماءنا لأن لامبالاة اليوم قد تكون عواقبها وخيمة علينا في ظل العولمة الطاغية ونشاط الخصوم الحضاريين الدؤوب المتصاعد، وقمة الإيجابية ما كان عليه الشيخ رحمه الله من عطاء حتى كانت دروسه بين المسجد والمدرسة تصل إلى خمسة عشر درسا في اليوم، لا يتقاضى عليها أي مقابل من أي جهة…هذه هي الفاعلية في أبهى صورها وأقصى درجاتها، تصلح أن تكون قدوة لأتباع ابن باديس وهم يقتفون أثره في إصلاح النفس والأسرة والمجتمع.
– تجديد الولاء للهوية : كان هذا واجب الوقت زمن ابن باديس وهو واجب الوقت اليوم…كنا نرجو أن تتجمع الجهود من أجل معركة التنمية لكن الاستقلال الناقص لم يترك لنا خيارا، ونحن ملزمون بخوض معركة الهوية لأن المخابر المعروفة تطبخ للجزائر هوية جديدة تبعدها في نهاية الطاف عن دينها و لغتها ووحدتها الوطنية، وتحت غطاء التنوّع يراد طمس معالم شخصيتنا وخلق أقليات دينية وإثنية ولغوية تكون مطية للعولمة ولتدخّل القوى الخارجية في يوم من الايام بذريعة حماية الأقليات كما هو دأب الغرب الاستكباري، وقد تعلمنا من أدبيات جمعية العلماء ومن الواقع أنه لا يمكن خوض معركة التنمية والازدهار الاقتصادي إلا انطلاقا من هويتنا أي من شخصيتنا المتميزة ولغتنا الحية، مع التفتح اللازم على جميع اللغات والثقافات والفلسفات.
– الاصطفاف مع الجمعية في عهدها الجديد بالانخراط والتأييد والمساعدة المادية والمعنوية، فهناك من يبذل المال، وهناك من ينخرط في العمل التربوي والفكري بالتدريس وإلقاء المحاضرات، هناك من يوزع جرائدها ومجلاتها، وهناك من يقتنيها ويقرؤها، وهناك أشكال أخرى لخدمة الجمعية وأهدافها النبيلة.
هذا حتى نحافظ على مشروع باديس ولا يلتقمنا مشروع باريس.