خواطر وإشارات في الذكرى التّسعين لتأسيس أم الجمعيات

إبراهيم بن ساسي/
حدّثني الشّيخ معاذ بن عبد الرّحمن صيّاد من ولاية بلعباس، وهو رجل طيّب بدأ مساره المهني معلما باللّغة الفرنسيّة فمستشارا تربويا ثمّ إطارا لمؤسّسات الشّباب في ولاية بلعبّاس حين لقيته في مدينة وهران يوم 10 أوت سنة 2015 م فقال: “حرص الاحتلال على حشو عقول النّاشئة بكلّ ما يبعدها عن الدّين والقيّم من خلال عشرات القصص الّتي تزخر بها برامجه التّربويّة والتّعليميّة وكمثال على هذا فقد ورد في كتاب مئة وواحد قصة (علي وفاطمة) المعدّ خصّيصا لبرامج التّعليم في دوّل الشّمال الإفريقي في العقدين الرّابع والخامس من القرن العشرين، وجد إبليس سيّدنا نوحاً يغرس شجرة عنب فسأله: ماذا تفعل؟ فقال إنّي أغرس شجرة العنب، وهي شجرة مثمرة طيّبة الفاكهة، فقال إبليس: لهذا سأساعدك، ولمّا انتهى نوح من غرس الشّجرة جاء إبليس وذبح خروفا وسقى بدمه الشّجرة، وفي اليــوم الثّاني جـاء بسبع (أسد) وسقى بدمه الشّجرة، وفي اليوم الثّالث سقاها بدم قرد ذبحه، أمّا اليوم الرّابع فذبح خنزيرا وسقى بدمه هذه الشّجرة…. لتخلص القصّة إلى أنّ الإنسان حين يشرب الخمر القليل يكون كالخروف وديعا خفيفا ليّنا، وحين يشرب أكثر يكون كالسّبع قويّا مفترسا، وحين يشرب زيّادة على ذلك يغيب بعض عقله فيكون كالقرد يتصرّف بحركات بهلوانيّة غريبة، أمّا حين يبالغ في الشّرب أكثر فيفقد عقله ليتمرّغ في التّراب ويحطّم كلّ ما يقابله كالخنزير وتنتهي القصّة ناصحة إيّانا بالشّرب الخفيف، لنكون كالخرفان في خفّة ورشاقة! وهي دّعوة صريحة لشرب الخمر المحرّم في ديننا كما ترى يا أخي إبراهيم، فإبليس ناصح ولكنّه غير أمين” وهو ما يدعونا لمراقبة برامجنا التربوية والتفطّن لما قد يتسلل إليها من هذا الدرن أو ذاك.
نصر من الله وفتح قريب
بعد توقف الثّورات الشّعبيّة الجزائريّة ومقاوماتها الباسلة للتوسع الفرنسي في الجزائر كان لا بدّ من مقاومة سيّاسيّة اعتمدت تأسيس الأحزاب والجمعيّات وإصدار الجرائد والمجلّات وتنظيم المظاهرات والإضرابات وغيرها، فكان تأسيس جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين يوم الخامس ماي سنة 1931 م بنادي التّرقّي وسط العاصمة بحضور 72 من العلماء الجزائريّين وقد تمّ انتخاب الشّيخ عبد الحميد بن باديس رئيسا للجمعيّة ولم يكن من الحاضرين لجلسة الانتخاب وهو عبد الحميد بن مصطفى بن المكّي بن محمّد كحّول بن عبد الرّحمن بن باديس الصّنهاجي المولود بمدينة قسنطينة ظهر الأربعاء 04 ديسمبر سنة 1889 م حفظ القرآن وعمره 13 سنة ارتحل للزّيتونة سنة 1908 م فأخذ عن الشّيخ ابن عاشور وغيره ثمّ سافر للمدينة المنوّرة وهناك التقى برفيق دربه الشّيخ البشير الإبراهيمي الّذي انتخب نائباً له عند تأسي الجمعيّة مع ثلّة من الأخيار نذكر منهم الشّيوخ محمد الأمين العمودي الطّيّب العقبي مبارك الميلي إبراهيم بيّوض ومستشارين آخرين.
أهداف وأساليب جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين وعطاءاتها
ـــ التّعريف بالإسلام الصّحيح
ـــ مطالبة فرنسا فصل الدّين الإسلامي عن الدّولة الفرنسيّة
ـــ المحافظة على الأوقاف الإسلاميّة
ـــ حريّة الدّيّانة وتنقية الفكر والدّين من الشّعوذة وكلّ اعتقاد باطل
ـــ محاربة الآفات الاجتماعيّة بتأسيس المدارس والنّوادي والأفواج الكشفيّة وتأسيس الصّحف متّخذة شعارها [الجزائر وطننا والإسلام ديننا والعربيّة لغتنا] كما اتّخذت الصّحف والمجّلاّت وسيلة للتّربيّة والتّوعيّة كالمنتقد والنّجاح والشّهاب والسّنّة النّبويّة والشّريعة السّراط والبصائر
وأنشأت العديد من المعاهد والمدارس للتّربيّة والتّعليم والمحاضرات والأناشيد والقصائد الوطنيّة والأعمال المسرحيّة لرفع الحسّ الوطني وتربيّة النّاشئة على محبّة الوطن والذّود عن حيّاضه وقد تجلّى دورها السّيّاسي بمشاركتها في المؤتمر الإسلامي سنة 1936 م وقيّادة رئيسها الوفد نحو باريس لعرض مطالب الجزائريّين، كما أوفد البعثات الطّلاّبيّة العلميّة للزّيتونة والقيروان بتونس والقرويّين بالمغرب وكذا القاهرة ودمشق وبغداد.
شهادات
قالت مجلّة echo de paris أيكو دو باريس الصّادرة بتاريخ 02 أفريل سنة 1937 م: [إنّ الحركة الّتي يقوم بها العلماء المسلمون في الجزائر أخطر من جميع الحركات الّتي قامت حتّى الآن، لأنّ العلماء يرمون من خلال حركتهم هذه إلى هدفين اثنين: الأوّل سيّاسي والثّاني ديني، فالعلماء المسلمون المثقّفون هم العالمون بأمور الدّين الإسلامي وفلسفته والواقفون على أسرار معتقداته، فهم لا يسعون إلى إدماج الجزائر بفرنسا بل يُفتّشون في القرآن نفسه على مبادئ استقلالهم السّيّاسي]
الأستاذ عبد الله ناصح علوان رحمه الله: من أجل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر قامت فرنسا بتجربة عمليّة فانتقت بنات مسلمات جزائريّات فأدخلتهن في المدارس الفرنسيّة وقامت بتربيّتهنّ سنوات على الثّقافة الفرنسيّة فكراً واعتقاداً ولباساً وأحضرتهن لحفلة أعدّتها تحضيراً للذّكرى المئويّة الأولى لاحتلال فرنسا للجزائر، ولما أمرتهن بالخروج ظهرت الفتيات بلباسهنّ الجزائري السّاتر فانقلبت الصّحف الفرنسيّة تكيل اللّوم متسائلة: ماذا فعات فرنسا في الجزائر قرابة 100 عام؟ فأجابها لا كوست الحاكم الفرنسي في الجزائر [وماذا أفعل إذا كان القرآن أقوى من فرنسا!؟]
الثّمــرة اليانعة
ممّا لا يدعو للشّك والرّيب أن جهود جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين أينعت ثمارها في الجزائر فساهمت في حركة علميّة إصلاحيّة اجتماعيّة حرّرت العقول وكسّرت القيود ووجّهت الشّعب للمطالبة بتقرير مصيره وحريّته واستقلاله من خلال انتفاضاته على المستدمر الفرنسي وصولاً إلى إعداد جيل الثّورة من شيوخها وطلبتهم المجاهدين الّذين أضحوا قيادات لها في شتّى مراحلها فقد كان في القادة حملة لكتاب الله متخرّجون من معاهد ومدارس الجمعيّة متشبّعون بفكر التّحرّر والاستقلال.
جمعية العلماء في تراث الأدباء
ألقى الشّاعر الجزائريُّ الفذ محمد العيد آل خليفة رحمه الله قصيدة في الاجتماع التّأسيس الأوّل لجمعيّة العلماء قال في بعض أبياتها:
على الرّحب حلّوا أجمعين على الرّحبفأنتم ضيوف في حمى الله والشّعب
طلعتم علينا كالكواكــــب في الدّجــــىوسرتم إلينا كالسّحائب في الجدب
يا عصبة العرفان يــا قادة الهــــــدىتعالوا نردّ الشّعب ملتئم الشِّعــب
كما زيّن شاعر الثّورة الجزائريّة مفدي زكريا رحمه الله إلياذته الخالدة بالإشادة بأمّ الجمعيّات الجزائريّة جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين فقال بلسان التّقدير والإجلال:
وفي الدّار جمعيّة العلمـــاء تغـــذّي العقول بوحي السّمــاء
وتهدي النّفوس الصّراط السّويّوتغرس فيها معانــــي الإبـاء
جمعية العلماء والقدس الشّريف
لم تكن قضايا الأمّ العربيّة والإسلاميّة غائبة عن اهتمامات جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين في المشرق أو المغرب وعلى رأسها قضيّة فلسطين وكمثال عن ذلكم الاهتمام ما رواه لي والدي الحاج محمد علي رحمه الله ّإذ يقول: سعدت بالاستماع إلى خطابات الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أثناء حجّ سنة 1952 م وقد اقتربت منه ذات مساء وظهره إلى جدار الرّوضة الشّريفة، يحدّث النّاس حول جرائم المحتلّ الفرنسي وضرورة دحره وإخراجه من البلاد بسلاح العلم والعقيدة، محذّرا من الجهل والأميّة التي يراها أخت الاحتلال وكأني به يريد إعلان الثّورة ورفع السّلاح لطرد فرنسا، وقد ختم حديثه حول موضوع فلسطين وضرورة الالتفاف حولها مبرزا نوايا الصهاينة في تهويدها داعيا المسلمين إلى اليقظة والحذر من مكايد اليهود] أجل… فلم تغادر فلسطين خطبه وصيحاته، وهو الذي يراها للعرب جميعهم حيث يقول: [أيها العرب إن قضية فلسطين محنة امتحن الله بها ضمائركم وهممكم وأموالكم ووحدتكم وليست فلسطين لعرب فلسطين وحدهم وإنما هي للعرب كلهم وليست حقوق العرب فيها تنال بالهوينا والضّعف، وليست تنال والخطابات وإنما تنال بالتّصميم والحزم والاتحاد والقوة، إن الصهيونية وأنصارها مصمّمون، فقابلوا تصميمهم بتصميم أقوى منه، وقابلوا الاتّحاد باتّحاد أمتن وكونوا حائطا لا صدع فيه، وصفّا لا يُرقعُ بالكسالى، وكان يقول رحمه الله: [إن فلسطين وديعة محمد صلى الله عليه و سلّـم عندنا وأمانة عمر في ذمتنا وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون].
جمعية العلماء اليوم
لا تزال جمعية العلماء المسلمين تؤدّي رسالتها إلى اليوم وقد بُعثت في نهاية الثّمانينيّات بجهد من بقيّ من تلاميذها، فكان آخر رؤسائها فضيلة الشّيخ الوزير الرّئيس عبد الرّحمن شيبان رحمه الله الّذى تولّى الرّئاسة بعد وفاته الشّيخ الدّكتور عبد الرّزاق قسّوم حفظه الله وهي اليوم بمكتبها الوطني ومجلسها الاستشاري ومجلسها الوطني ممثّلة في أكثر من 45 ولاية بشعب ولائيّة وبلديّة لها نشاطات متعدّدة، من تعليم للقرآن وعلوم الشّريعة وتربيّة الشّباب وخدمة الخير وتوجيه الأمّة للصّلاح، من خلال معاهدها ومدارسها ونواديها ودروس ومحاضرات علمائها وشيوخها عبر الوطن الحبيب وكذا مجلّاتها وجرائدها كالبصائر والشّاب المسلم وغير ذلك، وقد أقامت جمعيّة العلماء عدّة ملتقيات فكريّة وتربويّة واجتماعيّة ولها اليوم حضور وتتبّع لكبرى الانشغالات الوطنيّة والدّولية بإصدارها لعديد البيانات والمواقف خصوصا موضوع حصار غزّة وأحداث القدس، وعلى الصّعيد المحلّى تُذكرُ مواكبتها لعدة انشغالات كقانون الأسرة والاعتداءات المتتاليّة على الثّوابت الوطنية في المنظومة التربوية، وكان ولا يزال لها رأي في إلغاء حكم الإعدام ومحاربة الفساد مراراّ، تجلّى ذلك واضحاً بداية من شهر فبراير 2019 م حيث واكبت الحَرَاك الشّعبي الجزائري السّلمي الذّي تتبّع مطالبها السّابقة لتوقيف مسار الفساد والمفسدين برويّة وحكمة.
جمعية العلماء ووباء كورونا 19
لقد تأكّد للشعب الجزائري اليوم وهو يعيش أزمة كورونا أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هي الأقرب للشعب الجزائري وهي أمّ الجمعيات بوقوفها معه زمن الأزمات والوطن كله بشعبه ومسؤوليه يقرُّ بعطاءاتها فقد كانت حاضرة قلبا وقالبا بمبادرتها الكبرى المتمثلة في توزيع ما يربو عن ستة آلاف جهز تنفس يساعد المصابين بالوباء القاتل من خلال علاقاتها وتعاونها مع بعض الجزائريين المتضامنين على عكس بعض المتشدقين والمتكلمين من الميسورين وأرباب الأموال في الجزائر إذ كشف الرأي هراءهم وزيفهم فتحية لجمعية العلماء على وقوفها الخالد.
ما الذي نريده اليـوم ؟
ــ نريد إعادة صيّاغة تاريخ وطننا وبعث تراث جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين عبر بعثه من خلال برامج المنظومة التّربويّة والإعلاميّة ليكون النّبراس الّذي تستضيء به أجيالنا في دياجير ظلامها.
ـــ نريد أن نتمثّل جميعا شعار جمعيّة العلماء [الجزائر وطننا والإسلام ديننا والعربيّة لغتنا] فنجتمع عليه حبّا للجزائر والتزاماً بتعاليم الدّين الحنيف وحفاظا على لغة القرآن دون إهمال لبقيّة اللّهجات خصوصا الأمازيغيّة الّتي ترعى الإسلام باعتبارها آية من آيات الله.
ـــ نريد أن يعرف الجميع للعلماء حقوقهم وقدرهم واحترامهم فنبرز مواقفهم ونُشيع علمهم وتراثهم بإعادة طبع وتوزيع كتبهم ومؤلّفاتهم النّافعة النّادرة.
ـــ نريد أن نعطي للعربيّة حقّها وقدرها من الدّراسة والتّمكين وأن نعيدها لواقعنا تعلّماً واستعمالاً وصدق الشّيخ مبارك الميلي القائل: من حاول إصلاح أمّة إسلاميّة بغير دينها فقد عرّض وحدتها للتّلاشي وصار هادماً لعرشها بنيّة تشييده، ومن أعرض عن اللّغة العربيّة ، فقد أعرض عن ذكر ربّه، ومن يعرض عن ذكر ربّه يسلكه عذاباً صعداً.
ـــ نريد للجزائر ولأمّتنا العربيّة والإسلاميّة تقدّما ورخاء في ظلال المحبّة والتّعاون وللمسلمين جميعهم سكينة واستقراراً ولأمننا وحدودنا وجنودنا وثرواتنا وقوّتنا حفظا وأمنا وسلاماً ولقدسنا ومرابطيه ثباتاً ونصراً وتحرّرا وخلاصا، وصلّ اللهمّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وآله وصحبة أجمعين.