الـمرأة فـــي فكــر الإمام ابن باديــــــس
د. حجيبة أحمد شيدخ
“والمرأة حتى وإن أحبت الطيران فهي تخسر الكثير إذا لم يحسن أبناؤها ذلك” .
حمل ابن باديس هم الجزائر التي كانت تعاني آلام الاستعمار فأنار عقول الجزائريين بحقيقة انتمائهم وبقيمة وطنهم فانتفضوا وحرروا بلدهم، ولأن أفكاره عميقة وأصيلة، مستمدة من روح الإسلام فإننا سنبقى نستفيد منها حاضرا ومستقبلا في مختلف المجالات، ومن أهم ما نحتفظ به من آراء لابن باديس، ما يتعلق بالمرأة وما بذله من جهد في سبيل النهوض بها، فما هي أهم قضايا المرأة التي اهتم بها ابن باديس؟
أولا: تعليم المرأة في نظر ابن باديس
اعتنى ابن باديس بتعليم المرأة عناية خاصة انطلاقا من قناعته بدورها في النهوض الحضاري للأمة، وبسبب ما كان يلاحظه من سياسة استعمارية تهدف إلى فرض تعليم غربي اللغة والقيم على الجزائريين، فقد خطط المستعمر للقضاء على هوية الجزائريين بسلوك سياسة التجهيل لهم فكانت فرص التعليم محدودة طوال فترة الاحتلال ( 1830 -م1962) إذ كانت الأمية متفشية بنسبة لا تقل عن 85 بالمائة بين الرجال و99 بالمائة بين النساء ,
لقد أدرك ابن باديس أن تعليم المرأة يعد من أساليب محاربة المستعمر إذ أن نوع الثقافة التي ينبغي أن تثقف بها الجزائرية ستعمل على استنهاض كل المجتمع ضد المستعمر لا تحويل المرأة إلى مناصر له، ولئن كانت المرأة الجزائرية في عهد ابن باديس تعيش تحت وطأة الجهل والتخلف فقد تعالت في ذلك الزمن دعوات التحرر من المشرق العربي والغرب فكان لزاما أن ينظر الحكماء من أبناء هذا الوطن في حال المرأة الجزائرية.
يعتبر ابن باديس الجهالة التي كانت عليها المرأة الجزائرية في عهده جهالة عمياء ويحمل الأولياء مسؤولية ذلك، ويرى أنهم يأثمون بذلك إثما كبيرا، وأهل العلم وإرث النبوة مسئولون عن الأمة فعليهم أن يقوموا بمسؤولية تعليمها، وشعورا منه بهذه المسؤولية سخر قلمه وخطبه للتوعية بهذا الواجب مستدلا على ما يذهب إليه من آراء بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وتاريخ المسلمين :
1- من القرآن الكريم: العمومات القرآنية الشاملة للرجال والنساء، فإن مذهب الجماهير، أن الخطاب بصيغة التذكير شامل للنساء إلا بمخصص يخرجهن من نص أو إجماع أو بضرورة طبيعية، لأن النساء شقائق الرجال في التكليف ولا خلاف في أنه إذا اجتمع النساء والرجال ورد الخطاب أو الخبر مذكرا على طريقة التغليب .
ويذكر كأمثلة على ذلك قوله –تعالى –: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل}، وقوله-تعالى – {واستشهدوا شاهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} فنص في الثانية على الرجال لما كان الحال مقتضيا لهم، وأطلق في الأولى فدل على أنه لا فرق بين أن يكون الكاتب رجلا أو امرأة، وهو من أدلة مشروعية تعلم النساء الكتابة، وكل خطاب عام شامل للنساء شموله للرجال والعمومات إذا تكاثرت أفادت القطع.
2- من الحديث النبوي: فقد استدل بما يلي: عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه -: قالت النساء للنبي –صلى الله عليه وسلم – ((غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك)) فوعدهن يوما لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن فكان فيما قاله لهن (( ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار)) فقالت امرأة : واثنين، فقال (( واثنين)).
وفي حديث ابن عباس أن الرسول –صلى الله عليه وسلم – خرج ومعه بلال، فظن أنه لم يسمع النساء فوعظهن وأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم. وبلال يأخذ في طرف ثوبه.
وعن تعليم النساء الكتابة يستدل بحديث الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل علي النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وأنا عند حفصة فقال لي: ((ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة )).
3- من التاريخ الإسلامي: ما استفاض به تاريخ المسلمين من عالمات وكاتبات كثيرات فيه دلالة قوية على مشروعية تعليم النساء .
ويرى ابن باديس أن حق التعلم للمرأة لا يجيز لها الاختلاط بالرجال فإما أن يفرد النساء بيوم خاص في التعلم أو أن يتأخرن عن صفوف الرجال كما كان ذلك عند السلف، ولتطبيق ما كان يدعو إليه ابن باديس من مبادىء تربوية وتعليمية أسس سنة (1930م) جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة، وتولى رئاستها بنفسه وذكر أن المادة الثانية من قانونها الأساسي: نشر الأخلاق الفاضلة والمعارف العربية الفرنساوية بين أبناء وبنات المسلمين. ولشدة اهتمامه بتعليم الفتيات جعل تعليمهن مجانيا إذ قال في ختام كلامه حين تأسيس الجمعية السالفة الذكر:” وقد عزمت الجمعية على فتح دروس بعد –رمضان – لتعليم البنات فندعو إخواننا المسلمين إلى المبادرة بأبنائهم وبناتهم إلى المكتب فأما البنون فلا يدفع منهم واجب التعليم إلا القادرون وأما البنات فيتعلمن كلهن مجانا لتكون منهن –بإذن الله – المرأة المسلمة المتعلمة”.
وجعل التعليم للبنات مجانيا يدل على حرص ابن باديس على استقطاب أكبر عدد من البنات للتعلم، وعلى وعيه بدور المرأة المتعلمة في بناء المجتمع .
وفي سنة 1939م بعث ابن باديس برسالة إلى مديرة إحدى الثانويات في مدينة دمشق وكانت من أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري يطلب منها أن تستقبل في مؤسستها التعليمية عددا من الطالبات الجزائريات من خريجات مدارس جمعية العلماء التي كان يرأسها، وقد وافقت على مطلبه ورحبت كثيرا بهذه المبادرة، فاتصل ابن باديس بأولياء الطالبات اللاتي اختارهن لتشكيل وفد البعثة الطلابية إلى دمشق في السنة القادمة ولكن اندلاع الحرب العالمية الثانية حال دون تنفيذ هذا المشروع .
ثانيا: مشاركة المرأة للرجل في نظر ابن باديس:
ويتخذ ابن باديس من حياة الصحابيات وما كن يقمن به من أعمال في السلم والحرب في عهد الرسول –صلى الله عليه وسلم – سندا لما يدعو إليه فيما يتعلق بمشاركة المرأة للرجل، فحين يتحدث عن الصحابية “الربيع بنت معوذ ” – رضي الله عنها يذكر أنها كانت ممن غزين مع النبي – صلى الله عليه وسلم – فيخدمن الجيش ويسقين الماء ويقمن على الجرحى فيداوينهم ويحملنهم فيرددنهم إلى المدينة، وهو يرى في ذلك أصلا لتأسيس فرقة الممرضات في الجيش وتهيئتهن لذلك بتعليمهن ما يحتجن إليه في الحرب من القيام بعملهن والدفاع عن أنفسهن واستعمال ما يقيهن من الهلاك، وقد أقر الشارع هذه المصلحة فكل ما تتوقف عليه في أصلها أو كمالها وإتقانها فهو مشروع ، ويرى أن يتكون لنا من هؤلاء الصحابيات قدوة حسنة يقول:” هؤلاء السيدات الصحابيات رضي الله عنهن قد كن يشاركن الرجال في الحرب وهي أبعد الأشياء عن طبعهن ويقمن معهم بما يليق بهن فلنا فيهم وفيهن القدوة الحسنة أن نشرك معنا نساءنا فيما نقوم به من مهام مصالحنا ليقمن بقسطهن مما يليق بهن في الحياة –على ما يفرضه عليهن الإسلام من صون وعدم زينة وعدم اختلاط ولن تكمل حياة أمة إلا بحياة شطريها: الذكر والأنثى.
نسال الله أن ينهض بنا رجالا ونساء في خدمة الإسلام وفي دائرة الإسلام إنه القريب المجيب”، ولا يخفي ابن باديس إعجابه بالنساء العربيات في التاريخ العربي والإسلامي كالملكة بلقيس وهند بنت عتبة والخنساء وما اختياره للحديث عنهن إلا لقوة هذه الشخصيات وكونها أهلا للاقتداء بها .
ثالثا: الرسالة الحقيقية للمرأة في نظر ابن باديس:
ولئن كان ابن باديس قد دعا إلى تعليم المرأة ورأى تكوينها لتكون مستعدة للوقوف مع الرجل في السلم والحرب فإنه يرى أن المهمة الأساسية للمرأة هي بيتها، وتربية أبنائها وهذه نظرة واقعية من رجل حكيم، لأن المرأة الجاهلة لا يمكنها أن تنشىء جيلا متماسكا فحرص على ضرورة تعليمها كما أن المرأة العاملة لا يمكنها وإن بذلت كل الجهود أن تكون مستقرة وتكون بيتا مستقرا.
لقد قسم ابن باديس الحياة إلى قسمين داخلي وخارجي، وجعل القيام على القسم الداخلي من مهام المرأة والقيام على القسم الخارجي من مهام الرجل، فإذا حدث خلل في وظيفة أي واحد منهما أدى ذلك إلى فساد في المجتمع، ويضرب أمثلة على ذلك بما يحدث في المجتمع الغربي من مزاحمة المرأة للرجل في المجال الخارجي فأدى ذلك إلى خلل في المجتمع كله، وهذا ما يحدث في وقتنا الحالي في المجتمع الجزائري والمجتمعات العربية والإسلامية بسبب تغير الأوضاع وعدم الانضباط بضوابط الشريعة الإسلامية، وحين نتتبع آراء ابن باديس فيما يتعلق بالمرأة نلاحظ أنه كان ينظر إلى مهامها نظرة مقصدية فهي تتعلم العلوم الشرعية لتنضبط بها وتحمي أبناءها من التغريب، وتتعلم التمريض وكيفية الدفاع عن النفس في حال الحرب لتكون في صفوف الجيش، ولربما كانت له آراء أخرى لو عاش في زمننا هذا؟
ومن أهم مهام المرأة: تكوين الأجيال، وتنشئة الأطفال تنشئة سليمة يتوقف على أخلاق المرأة وتدينها، ويرى ابن باديس أن الضعف الديني والخلقي في رجال الأمة إنما سببه انعدام التربية الإسلامية في البيوت بسبب جهل الأمهات بالدين يقول:” فإذا أردنا أن نكون رجالا فعلينا أن نكون أمهات دينيات ولا سبيل لذلك إلا بتعليم البنات تعليما دينيا وتربيتهن تربية إسلامية، وإذا تركناهن على ما هن عليه من الجهل بالدين فمحال أن نرجو منهن أن يكون لنا عظماء الرجال، وشر من تركهن جاهلات بالدين إلقاؤهن حيث يربين تربية تنفرهن من الدين أو تحقره في أعينهن فيصبحن ممسوخات لا يلدن إلا مثلهن، ولئن تكون الأم جاهلة بالدين محبة له بالفطرة تلد للأمة من يمكن تعليمه وتداركه، خير بكثير من أن تكون محتقرة للدين تلد للأمة من يكون بلاء عليها وحربا لدينها، فنوع تعليم البنات هو دليل من سيتكون من أجيال الأمة في مستقبلها، وقد تفطنت لهذا بعض الأمم المالكة لزمام غيرها فأخذت تعلم بناتهم تعليما يوافق غايتها، فمن الواجب علينا – ولنا كل الحق في المحافظة على ديننا ومقوماتنا – أن نعني بتعليم بناتنا تعليما يحفظ علينا مستقبلنا ويكون لنا الرجال العظماء والنساء العظيمات، وإلا فالمستقبل ليس كالماضي فقط بل شر منه لا قدر الله”.
إن نظرة ابن باديس إلى نوعية الثقافة التي يجب أن تتزود بها المرأة المسلمة وتأثيرها على المجتمع، استنتجها من واقع المتعلمات تعليما أجنبيا في زمنه وتأثير هذه الثقافة على الأبناء وخدمتها للمستعمر، وهذه الآثار نلاحظها أيضا في واقعنا الحالي من انحرافات في وسط أبنائنا وازدواجية في شخصية المجتمع وهذا بسبب نوعية ثقافة الآباء والأمهات– بخاصة -، إذ استمرت التبعية للثقافة الغربية تطغى على كثير من عقول أبناء هذا الوطن ولذلك فإننا لازلنا بحاجة إلى الأفكار الباديسية للحفاظ على هويتنا واستقلالنا، وإذا كانت المرأة حاليا تنعم بحرية التعليم في مختلف الجامعات، فإن هذه الجامعات بحاجة إلى تأطيرها بالثقافة الإسلامية لنخرج للمجتمع رجالا ونساء قادرين على بناء الأجيال التي نتمناها.
لقد اعتنى ابن باديس بشؤون المرأة عناية خاصة لا تقل عن عنايته بتكوين الرجال، وكانت مواقفه مبنية على علم بالأبعاد المستقبلية بعيدا عن التعصب ولئن كان هناك من يرى في موقفه من المرأة ضعفا للتصور حين قال : ” المرأة خلقت لحفظ النسل وتربية الإنسان في أضعف أطواره ((وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ))، فهي ربة البيت وراعيته والمضطرة بمقتضى هذه الخلقة للقيام به، فعلينا أن نعلمها كل ما تحتاج إليه للقيام بوظيفتها، وتربيتها على الأخلاق النسوية التي تكون بها امرأة لا نصف رجل ولا نصف امرأة، فالتي تلد لنا رجلا يطير خير من التي تطير بنفسها ” فإن كلامه هذا إذا أخذ إلى جانب ما ذكر له من آراء متعلقة بالمرأة يمكن فهمه انطلاقا من فقهه بواقع الأمة وأولويات الحلول لها، فالمجتمع الجزائري كان يعاني من الاستعمار ومن الأولويات التي يحتاج إليها في ذلك الوقت إنشاء أبناء متشبعين بالروح الإسلامية التي تجعلهم قادرين على اتخاذ القرار لإنقاذ الوطن الضائع والبيت هو الذي يكونهم وينشئ فيهم هذه الروح , والمرأة حتى وإن أحبت الطيران فهي تخسر الكثير إذا لم يحسن أبناؤها ذلك .”