وجـــاءت جـمعــيـــة العلمــــاء علـــى قـــدر
عبد العزيز كحيل/
إنّه نفس القدر الذي جاء عليه موسى عليه السلام بالواد المقدس طوى فحُمّل رسالة تبليغ التوحيد وتحرير قومه المضطهدين في مصر… هي الأقدار الإلهية الحكيمة تضبط حركة الأمة، ولنا أن نتصوّر كيف كان يكون حال الجزائر لو لم ينشأ ابن باديس وصحبه هذه الجمعية؟ جاءت نشأتها كواحد من عوامل إحياء الأمة الإسلامية بعد إلغاء الخلافة، تزامنت مع إنشاء الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية بعد أن انشأ حسن البنا جماعة الإخوان قبل ذلك بثلاث سنين، فجمعية العلماء جزائرية المنشأ لكنها عربية البُعد وإسلامية الهوية، وقد دار نشاطها –وما زال – حول هذه الأبعاد الثلاثة، لم تحد عنها يوما.
لن أخوض طويلا في الجهاد الثقافي الذي حملت لواءه، مركزة على التربية والإعلام لحفظ هوية الشعب وتحصينه من الذوبان في الفرنسة والتغريب لكني أطرح سؤالا أراه وجيها: ألسنا في حاجة ماسة إلى استنساخ تجربة الجمعية وتعميمها في زمننا هذا؟ لقد تمثل سعيها أساسا في العمل الموازي المستقل القوي لافتكاك المبادرة الثقافية من يد سلطة الاحتلال في ميدان هوية الشعب ودينه وأخلاقه،.وقد خرج الاحتلال الفرنسي لكن بقيت أطروحاته وبقي من يتبناها ويروجها ويستميت في التمكين لها، فكانت هذه الخطة الجهنمية التي تستهدف تجفيف منابع التديّن وقطع صلة النشء بهويته وصدّ المجتمع عن ثوابته، فمن لهذا الطوفان الجارف؟ للأحزاب حساباتها السياسية، بل هي اليوم أضعف بكثير من أن تتبنى قضايا المجتمع، والمشكلة لم تعد مشكلة تنمية وتقدم وازدهار اقتصادي كما يوهموننا إنما هو سعي حثيث لإحداث قطيعة صارمة مع انتمائنا الديني، وللجمعية باع كبير في التصدي لمثل هذه التحديات الضخمة اكتسبته من خلال عمل ميداني لا يُنسى، ويلتفت إليها المجتمع الجزائري اليوم لتؤدي واجب إحياء معالم الإسلام في النفوس وحماية اللغة العربية من الاندراس وغرس الروح الوطنية حتى تبقى الجزائر عربية إسلامية حرّة، لأنّ الواقع ماثل أمامنا: ما زال الاستقلال ناقصا أقرب إلى الشكلي، يحتاج إلى استكماله بداية بأهمّ عنصر في حياة البلد والشعب ألا وهو الهوية، ونحن أمام خصم داخلي عنيد مبرمج باقتداريذود عن المرجعية التغريبية بل يفرضها فرضا على المجتمع، تلك المرجعية التي تفانت جمعية العلماء في محاربتها منذ نشأتها، ليعود ذلك الخصم بعد الاستقلال الناقص يُكمل بكلّ تبجّح وغرور ما بدأته فرنسا الصليبية من مسخ للشخصية الجزائرية الأصيلة وإفساد الأخلاق والأذواق والألسن والتقاليد ونمط الحياة الأسرية والعامة وفق منهجية تغريبية بامتياز تغرف من أموال الشعب لتُفسده بإفساد الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية والعلمية على جميع المستويات… أمام هذا الواقع المستحكم وفي غياب الدور المنتظر من الدولة أصبح الناس ينتظرون برنامج الأمل خارج السياسة التقليدية التي أفسدت كل شيء ولم تذر أمارة خير وتقوى وصلاح إلا امتدّت إليها بالتشويه والتحريف، والمأمول هو ما صلح به أوّل هذه الأمة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقطاب الجمعية منذ عهدها الأوّل.
لقد تأكد لكل عاقل أن وضعنا البلاد المزري لن يجد حلّه في عمل حزبي ضيّق ولا في انتخابات أقرب إلى الفلكلور وإنما في العمل التربوي الفكري الثقافي المركّز الجادّ العميق المتنوّع، والتعويل على المؤسسات الرسمية غدا ضربا من العبث، فبقي العمل الموازي، وهذا ممكن جدا رغم صعوبة المسعى والتضييق المرتقب لكن لا بديل عن هذا، فيجب إحياء تجربة الجمعية في العمل التربوي، الثقافي، الصحفي في المرحلة الأولى ليمتدّ إلى النشاط الخيري والاقتصادي والاجتماعي من خلال برامج علمية صارمة ومؤسسات مستقلة راسخة تخدم المجتمع في شتى الميادين بدءا بالتربية والتعليم… هذا هو الجهاد المدني، وهو واجب الوقت، وهو شيء يختلف تماما عن الهواية و الترقيع والارتحال، إنه بديل حضاري يستقطب أصحاب الغيرة على الدين والبلاد وأصحاب الأموال النظيفة وأصحاب العزائم القوية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من القطاعات الحيوية في المجتمع التي تعاني –كما يسلّم الجميع – الضعف والرداءة والتراجع، فلا يمكنها تكوين إنسان الحضارة ولا جيل البناء والنصر، ومَن غيرُ جمعية العلماء يملك العزيمة اللازمة والكفاءة المطلوبة ورصيد التجربة الرائدة لأداء هذا الواجب الضخم وحمل هذه الرسالة الجبارة؟ أعتقد أن العمل الموازي ضرورة وحتمية في ظل الأوضاع المتردية التي نعيشها، وهو لا يحتمل التسويف والتأجيل، وخير ما تحيي به جمعية العلماء ذكرى تأسيسها الالتفات إليه وحشد الدعم له، كيف لا وهي أول المتضررين من هذا الوضع، يتمّ تجاهلها ولمزها والتضييق عليها حتى إنها لا تملك مقرا لائقا بها، ولا تتلقى أي مساعدات من أي جهة رسمية في حين يُنفق بسخاء على غيرها… هذا إذًا قدَر مبارك آخر ينتظر خير جمعية أخرجت للناس.