محاضرة لرئيس الجمعية الشيخ الدكتور عبد الرزاق قسوم في جمهورية السودان سنة 2016 جمعية العلماء واجهت ظلم وظلامية الاحتلال
إعداد : أ. د. مسعود فلوسي/
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هي أم الجمعيات في وطننا، وهي -كما قيل عنها – “خير جمعية أخرجت للناس”، كيف نشأت؟ ومن هم هؤلاء الذي أنشؤوها؟ إننا يجب أولا أن نعود إلى السياق التاريخي الذي شهد ميلاد هذه الجمعية، وهو السياق الذي تميز بظلم وظلامية الاحتلال الأجنبي الذي كان التحدي الذي واجهناه بالتصدي. هذه الظلامية التي لفت بلدنا بالظلم والظلام هي التي بدأت في عام 1830م عندما جاء الغزاة الفرنسيون من بلادهم الأجنبية عنا في طبيعتها وثقافتها وفي إيديولوجيتها وفي معتقداتها، جاؤوا غزاة إلى بلدنا، ولم يكتفوا باحتلال الحقول، بل ذهبوا أيضا إلى احتلال العقول، ولذلك كان لا بد أن نتصدى لهذا النوع من الغزو الاستئصالي الخاص الذي لا يكتفي بالمكاسب المادية، بل يمتد أيضا إلى الأعماق النفسية والعقلية والاجتماعية، ليمسخ شعبا بكامله وجده دولة قائمة بكل سيادتها وبكل مقوماتها.
محاولات الاحتلال لإسقاط الأمة الجزائرية
5 جويلية 1830، كان هو اليوم الذي شهد النكبة التي نكبنا بها بهذا الاحتلال الذي لا مثيل له في كل أنواع الاحتلال الأجنبي في العالم كله، لأنه ـكما قلت ـ لا يكتفي بالمكسب الاقتصادي، ولا بالمكسب الاجتماعي، ولكنه يمتد إلى نفسية المواطن، إلى نفسية المجتمع، إلى نفسية الشعب ليستأصل منها كل معنى للحياة وللحيوية، وهذا ما فعل.
إذن، بهذا الاحتلال وقعت الجدلية بين سقوط الدولة ومحاولة إسقاط الأمة، الدولة هي علم وجيش وحكومة وعملة وسيادة، حيث يستطيع أي جيش إذا كان أقوى من الجيش المغزو أن يسقط الدولة، لكن سقوط الدولة وإن كان أمرا خطيرا، إلا أن الأخطر منه هو سقوط الأمة، لأن الأمة هي التي تحافظ على الدولة وليس العكس.
يمكن أن نأخذ على سبيل المثال الشعب الفلسطيني الذي سقطت دولته، إلا أن الأمة الفلسطينية المقاومة المجاهدة المستشهدة هي التي تقاوم الآن باسم الأمة من أجل استعادة الدولة، وستعود الدولة الفلسطينية إن شاء الله، كما عادت دولتنا سنة 1962.
التحدي والتصدي
بدأت جدلية العلاقة بين الدولة وبين الأمة ـ إذن ـ بمجرد الاحتلال؛ فالعدو عمل على إسقاط الدولة بمقوماتها الأساسية وهي العلم الوطني والحكومة والجيش والعملة، وكل مظاهر السيادة أسقطت تحت عامل القوة ولعوامل أخرى، لكن بعد ذلك بدأ هذا العدو يمتد إلى محاولة إسقاط الأمة بمقوماتها، ومقومات الأمة هي: الثقافة، العقيدة، الوحدة الوطنية، الوعي بالذات، الهوية، الكينونة الشخصية، هذه المقومات إذا سقطت لن تقوم للأمة قائمة.
ولذلك بدأ بأول محاولة وهي إسقاط المقوم الأساس للأمة وهو العقيدة وكل ما هو كينونة مجتمعا في الوقف الإسلامي، فأول قانون أصدره العدو بعد احتلاله لبلادنا هو تأميم الوقف الإسلامي الذي هو عنوان السيادة والاستقلال للمجتمع الإسلامي عن أي دولة أجنبية، وألحق أموال الأوقاف ـ وهي عظيمة جدا ـ بما سماه أملاك الدولة أو الدومين، أي أملاك الدولة العامة، حتى لا يدع للمسلمين أي فرصة لأن يتحققوا بدينهم ومعتقدهم ومساجدهم كذلك.
وعندما نتحدث عن الوقف، نتحدث كذلك عن اللغة العربية التي هي لغة الإسلام، اللغة التي يعمل الوقف على إحيائها في عقول وألسنة وقلوب الناس. ولذلك بعد تأميم الوقف جاء كذلك القانون الذي يجعل من هذه اللغة لغة أجنبية في بلادها.
المحاولة الثالثة لإسقاط الأمة كانت تحويل المساجد إلى كنائس، أو إلغاء المساجد وجعلها أماكن للمجون والخلاعة وما إلى ذلك.
كل هذا كان تحديا للعقل الجزائري في ذلك الوقت، عقل العلماء، عقل المثقفين، عقل كل الذين وعوا حقيقة كينونتهم وحقيقة وجودهم. وعلى سبيل المثال، فإن أعظم مسجد في العاصمة وهو مسجد كتشاوة، الذي هو تحفة من التحف، وقد عز على هؤلاء الأجانب المحتلين أن يهدموه فحولوه إلى كنيسة، ولكن الأعجب من هذا أنهم استفزوا المجتمع المسلم وجاؤوا بمفتي تلك المرحلة واسمه الشيخ محمد ابن لكبابطي وقالوا له: أعلم شعبك وإخوانك المسلمين بأن هذا المسجد لن يبقى مسجدا بعد اليوم، وإنما سيصبح كنيسة وعليكم أن تذهبوا للصلاة في مكان آخر. ماذا كان موقف هذا العالم الجليل أمام هذا التحدي؟ وقف المعني ـ والدموع تملأ عينيه والغصة تملأ قلبه ـ مخاطبا إخوانه قائلا: “يا إخوتي اعلموا أنه إذا تحولت القبلة في مسجدكم هذا فإن إله القبلة لن يتحول من قلوبكم أبدا”. هذا العهد الذي قطعه المفتي على نفسه في هذه القضية، هو العهد الذي تحقق بعد الاستقلال في أول جمعة أقيمت في الثاني من نوفمبر سنة 1962 بعد حصولنا على الاستقلال، وكان الذي أمَّ هذه الجمعة النموذجية عالم جمعية العلماء الإمام محمد البشير الإبراهيمي الذي كان رئيسها الثاني بعد الشيخ عبد الحميد ابن باديس.
ما حدث أنه عندما بلغ السيل الزبى، عندما أصبح المسلم الجزائري مهددا في هويته، في عقيدته، في ثقافته، في لغته، في شخصيته، كان لا بد للعلماء أن يواجهوا التحدي بكل التصدي، ولذلك من العوامل التي ساهمت في إحداث وإنشاء وتأسيس جمعية العلماء؛ الاحتفالية المئوية لانقضاء مائة سنة على الاحتلال، هذه المئوية استفز العدو فيها كل المواطنين، حيث ظل عاما كاملا وهو يحتفل بهذا الحدث المؤلم وهو انقضاء مائة سنة على الاحتلال، ثم قال قائلهم، وهو أحد القادة العسكريين المتبجحين، قال: إننا لا نحتفل فقط بانقضاء مائة سنة على دخولنا لهذا البلد، ولكننا نحتفل بتشييع جنازة الإسلام من هذا الوطن، وتشييع لغة الإسلام من هذا الوطن، وتشييع شيء اسمه الجزائر من هذا الوطن.
الثلاثية المقدسية
ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، في ذلك الوقت وفي 5 مايو 1931 تأسست جمعية العلماء على ثلاثية مقدسة لتقول لهذا المتبجح الكاذب: “الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا”.
أيقن العلماء أن لا خلاص لهم إلا بتكوين هيئة تكون هي الضامن لاستعادة الدولة التي سقطت، ولحماية الأمة كي لا تسقط. وهكذا بدؤوا في تأسيس الأمة على جميع المستويات، حيث أيقنوا أن الأمة لا تقوم إلا بالعلم فأسسوا المدارس والمؤسسات والمعاهد لتكوين الناشئة وضمان مستقبل هذه الناشئة بلغتهم الأصلية اللغة العربية لغة الإسلام، هذه كانت النقطة الأولى.
النقطة الثانية، كانت المساجد، لأن المسجد كان يعين فيه إمام عميل للاحتلال، فجاءت جمعية العلماء وقالت: لا تجوز الصلاة في هذه المساجد التي يؤمها أئمة معينون من العدو، ولذلك بنت المساجد الخاصة بها فأصبح الشعب يقاطع بقية المساجد ويأتي إليها.
كذلك اهتم الشيخ ابن باديس والشيخ الإبراهيمي والعلماء الذين كانوا معهما، بالعناية بتوعية المواطن بتخلفه وباحتلاله وبوجوب العمل على تجاوز هذا الاحتلال وتخليص وطنه ومجتمعه منه.
وهكذا نجد أن كل الوسائل استخدمت: العناية بالشباب، العناية بالكشافة، العناية بالفنانين، الفن الذي يخدم الوطن، النشيد الوطني، كما اهتمت جمعية العلماء بتعليم البنت وجعلت تعليمها مجانيا، فلا تدفع شيئا تشجيعا لها على التعلم والنهوض بالوطن.
تنهض الأمة بالعلم أو بالظلم
يقول الشيخ ابن باديس في هذا المجال، تنهض الأمة بأمرين اثنين، إما قوة العلم، وإما قوة الظلم. أما العلم فنحن فقراء منه، لا نملك العلم ولكن علينا أن نعمل – وفقا لتعاليم ديننا – على أن يكون العلم هو سلاحنا الذي به نواجه العدو. أما الظلم فنحن منه أغنياء. ولكن أضاف فقال: اللهم إن كنت تريد بهذا الظلم الذي حل بنا إنهاضَنا فزدنا من الظلم (يعني ظلم الاستعمار لنا الذي من شأنه أن يحفزنا ويدفعنا إلى النهوض ضده والثورة عليه).
إذن قوة الظلم وقوة العلم هما الدعامتان اللتان بهما يستطيع الشعب أن يتصدى وأن يتحدى وأن يقاوم كل أنواع التحدي.
هذا من جهة، من جهة ثانية اهتمت جمعية العلماء بالاقتصاد، والاقتصاد كان في يد اليهود الصهاينة الذي كانوا هم المدعم الحقيقي للاستعمار الفرنسي في ذلك الوقت، فكانوا يتحكمون في اقتصاد الوطن واقتصاد الأمة، فجاءت جمعية العلماء وكونت هيئة من الاقتصاديين ورجال الأعمال وقالت لهم: ينبغي أن تضطلعوا أنتم بهذه المهمة حتى لا يمكن لليهود أو لأي أجنبي أن يتحكم في أموال الناس وجيوهم.
وهكذا كانت هذه العملية الإصلاحية عملية شاملة، وأضافت إليها كذلك العناية بالأحزاب السياسية، فهي كانت تدعو إلى اتحاد الأحزاب لأنه لا يمكن لشعب أحزابه مختلفة ومتفرقة وليست لها مرجعية واحدة أن يواجه عدوا منظما وقويا.
وبذلك وقعت المقدمة السليمة التي جاءت بعد ذلك نتائجها سليمة.
عناية الجمعية بالإعلام
ونأخذ هنا على سبيل المثال الإعلام الذي اهتمت به جمعية العلماء بقيادة الشيخ عبد الحميد ابن باديس، فكلما أطلقت صحيفة أو مجلة يعرقلها الاستعمار، فتنشئ صحيفة ثانية. ولكن عندما نعود إلى صحف ومجلات الجمعية في ذلك الوقت الذي كان يسوده ظلام الاستعمار وظلام التخلف وظلام الجهل، نجد أنهم كانوا يملكون الحكمة والموعظة الحسنة، ويملكون الإيمان القوي بوطنهم وبمستقبل وطنهم.
فمن أمثلة المقالات التي كانت تكتب في ذلك الوقت، نجد الشيخ عبد الحميد ابن باديس الذي كان أول رئيس لجمعية العلماء، كان يستغل أي شيء ليسقطه وينزله على واقع وطنه ويستخلص منه العبرة.
من ذلك أنه كتب مقالا بعنوان (إلى محمد أيتها الإنسانية) سنة 1937، فالدعوة الإسلامية ليست خاصة بشعب بعينه، بل هي عامة للأمة الإنسانية، فلو أن هذه الأمة الإنسانية قاطبة تشبثت بقيم وأخلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما وقع ما نعيشه الآن من هذه الانتكاسة والحيوانية والبهيمية والعودة إلى قانون الغاب الذي نعيشه اليوم في كل مكان.
كذلك كتب مقالا بعنوان: (لمن أعيش؟) وأجاب: أعيش للإسلام وللجزائر.
وكان يستخلص بعض الآيات ويأخذ منها الموعظة، وكنموذج لذلك قوله سبحانه وتعالى: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل: 18]، عندما تناول الشيخ ابن باديس هذه الآية بالتفسير أورد أسباب النزول والمعاني اللغوية والإجمالية فيها، لكنه قال: يحب أن نستخلص منها شيئا واحدا، ما هو؟ قال: ياليت قومي وبني وطني يكون لهم نفس الوعي الذي تملكه هذه النملة بقومها عندما تعي ضعف بني قومها وتدعوهم إلى حماية وتحصين أنفسهم ضد الغزو والقوة، فينبغي على شعبنا أن يتعلم من هذه النملة وأن يحمي نفسه وأن يحمي وطنه من هذا العدو.
أما الشيخ البشير الإبراهيمي الذي كان فلتة خاصة في البيان وفي البلاغة العربية، فكان إلى جانب النبوغ والعلو والسمو والأناقة في لغته كان أيضا يتنبأ ببعض الأحداث التي ستقع. فمنذ أكثر من سبعين سنة كتب عن اليمن في مقال سماه ( سجع الكهان)، يقول فيه : “أخنى الزمن على اليمن، أبدلها صابا بمن، سلْ: سيفها بيد من؟ سل حكمها: أنت لمن؟ دستورها: لا تقرأن، لا تفهمن، لا تسألن. عد للحمى، عد للوطن، يا ابن اليمن”. قال هذا منذ سبعين سنة، وها هو اليمن يعيش هذا الآن.
مقاومة الجمعية للدجل والشعوذة
إن جمعية العلماء كانت كذلك تقاوم الدجل والتضليل باسم الدين والشعوذة وما إلى ذلك، لأنها كانت ترى أن هذه الأمور كانت هي المطية التي يسعد العدو بها لمد احتلاله.
وهنا ينبغي أن يُعلم أن جمعية العلماء عند ما وقفت ضد الشعوذة لم تقف ضد الصوفية ولا ضد التصوف، فالصوفي هو من صافى في الله فصوفي من الله فأصبح صوفيا. قال أبو الفتح البستي:
تنازَعَ النّاسُ في الصُّوفيِّ واختلَفواقِدْماً وظَنُّوهُ مُشتَقاً مِنَ الصُّوفِ
ولستُ أمنحُ هذا الاسمَ غيرَ فتىًصافي فصوفِيَ حتَّى لُقَّبَ الصُّوفي
فلم تكن جمعية العلماء أبدا ضد الصوفية أو ضد التصوف، ولكنها قامت ضد الشعوذة والمشعوذين والدجالين الذين كانوا يضللون باسم الدين ويستخدمون الدين كوسيلة لخدمة مصالحهم وتنويم شعبهم.
النشيد الخالد
وأختم بالنشيد الخالد الذي وضعه الشيخ عبد الحميد بن باديس:
شَـعْـبُ الْجَـزَائِـرِ مُسْلِمٌ…. وَإِلىَ الْـعُـرُوبَةِ يَـنْتَـسِـبْ
مَنْ قَالَ حَـادَ عَـنْ أَصْـلِـهِ….أَوْ قَالَ مَـاتَ فَـقَـدْ كَـذَبْ
أَوْ رَامَ إِدْمَـاجًا لَهُ …. رَامَ الْـمُحَـالَ مِنَ الطَّـلَـبْ
هذا القصيد وضع فيه الشيخ كل الأساس للخلاص فقال:
وَارْفَعْ مَنَارَ الْعَدْلِ….وَالإِحْسَانِ وَاصْدُمْ مَنْ غَصَبْ
وَاقْـلَعْ جُذُورَ الْخَائِنِينَ ….. فَمِنْـهُـمُ كُـلُّ الْعَطَبْ
وَأَذِقْ نُـفُوسَ الـظَّالِـمِـينَ ….. سُـمًّـا يُـمْـزَجُ بِالرَّهَـبْ
وَاهْـزُزْ نُـفُـوسَ الْجَـامِدِينَ ….. فَرُبَّـمَـا حَـيَّ الْـخَـشَـبْ
فكأنه كان يقول للجزائريين: إذا أحببتم أن تصلوا إلى الاستقلال، فهذا هو الأساس، ولابد لكم أن تكونوا جبهة لا يمكن التفاوض إلا معها، هذه الجبهة هي التي تكونت بعد ذلك تحت عنوان جبهة التحرير الوطني.