المؤرخ الدكتور يحي بوعزيز في ذكراه العاشرة/أد. مولود عويمر
لقد مرت هذه الأيام في صمت رهيب الذكرى العاشرة لوفاة المؤرخ الجزائري الدكتور يحي بوعزيز (1929-2007) رحمه الله. ولعل هذا المقال يكسر هذا الصمت، حينما يذكّر بفضل هذا المؤرخ الذي سخر جهوده خلال نصف قرن في إحياء الثقافة العربية في هذا البلد والتأريخ لماضيه العريق، ويدعو إلى إحياء ذكراه جيلا بعد جيل.
محطات ومعالم
لم تعد حياة الدكتور يحي بوعزيز مجهولة بعد أن نشر مذكراته “رحلة في فضاء العمر أو مذكرات شاهد القرن” في ثلاثة أجزاء. تحدث فيها بالتفصيل عن جذوره وأصوله ومحطات مختلفة من حياته العامرة التي بدأت في 27 ماي 1929 بالجعافرة (ولاية برج بوعريرج) بالشرق الجزائري.
وقد أحب هذه المنطقة التي نشأ فيها ودرس في زاوية والده وبقي على صلة وثيقة بها ويكفي دليلا على ذلك أنه خصص لها كتابا عنوانه “دائرة الجعافرة تاريخ وحضارة وجهاد” عرف فيه إسهاماتها الثقافية والنضالية عبر العصور.
انتقل إلى معهد الكتانية بقسنطينة لدراسة العلوم الشرعية واللغوية، ثم نصحه والده للسفر إلى عنابة للدراسة على يد العالم المعروف الشيخ حسن الطرابلسي لمدة 3 سنوات. وفي سنة 1949 سافر إلى تونس للتحصيل العلمي في جامع الزيتونة. ودرس الطالب بجد وتحصل على الشهادة الأهلية بامتياز في عام 1953، وكان ترتيبه الأول على مستوى المملكة التونسية، ونال شهادة التحصيل في ديسمبر 1956. وسافر بوعزيز إلى القاهرة بعد ذلك، والتحق بجامعتها التي درس فيها عدة سنوات على نخبة من أساتذتها أمثال: أحمد أنيس، سعيد عبد الفتاح عاشور، أحمد فخري، جمال حمدان، وغيرهم. وتحصل فيها على شهادة الليسانس في التاريخ في عام ديسمبر 1961.
لم يتوقف طموح بوعزيز عند نيل شهادة الليسانس، لذلك واصل دراساته العليا في جامعة الجزائر الحرة حتى نال فيها شهادة الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر في عام 1976. لقد درّس أولا في عدة مؤسسات تربوية، ثم عيّن بعد ذلك أستاذا للتاريخ الحديث بجامعة وهران، وبقي في هذا المنصب حتى وفاته في يوم 7 نوفمبر 2007، بعد صراع طويل مع المرض.
في رحاب البحث والتأليف
بدأت تجربة بوعزيز في مجال التأليف في تونس وهو مازال طالبا يزاول دراسته في جامع الزيتونة. فقد أصدر في تونس في عام 1957 كتابه الأول المعنون: “الأمير عبد القادر رائد الكفاح الجزائري”. ونظرا لتعلقه بهذه الشخصية الفذة واصل البحث في مساره وأعماله، ولم يتوقف، وقد كللت هذه الجهود الحثيثة بنشر عدة كتب ودراسات في هذا المجال. أذكر أولا كتابين، وهما: “بطل الكفاح الأمير عبد القادر” ، و”مراسلات الأمير عبد القادر مع إسبانيا وحكامها العسكريين بمليلية”. وأشير ثانيا إلى تحقيقه لكتاب “سيرة الأمير عبد القادر وجهاده” الذي وضعه ابن عمة الأمير ورفيقه في الجهاد الحاج مصطفى بن أحمد التهامي. بالإضافة إلى كل هذا، نشر الأستاذ بوعزيز عدة مقالات ودراسات في الموضوع نفسه في المجلات الجزائرية والعربية.
كذلك خصص أطروحته للدكتوراه لدراسة شخصيات مقاومة أخرى، وهي محمد المقراني وساعده الأيمن الشيخ الحداد. وأتبع أطروحته بمجموعة من المقالات والبحوث حول هذا الموضوع مدعمة بوثائق ثمينة جديدة، ثم نشرها في كتابين، وهما: ” مواقف العائلات الأرستقراطية من الباشاغا محمد المقراني وثورته عام 1871″، و”وصايا الشيخ الحداد ومذكرات ابنه سي عزيز”.
والحق، أن أعمال الدكتور بوعزيز تركزت في السبعينيات على تاريخ المقاومة الجزائرية خلال القرن التاسع عشر، فكتب مقالات وبحوثا كثيرة في الصحف والمجلات الجزائرية بخاصة “الأصالة” و”الثقافة” و “أول نوفمبر” وجريدة “الشعب” كشف من خلالها صفحات مشرقة من الكفاح الوطني بقيادة زعماء بارزين أمثال: الحاج أحمد باي، ابن ناصر بن شهرة، الشيخ بوزيان، الشريف محمد بن عبد الله، الشيخ بوعمامة، …الخ. وقد جمع بعض هذه البحوث وغيرها، وأصدرها في كتاب عنوانه: “ثورات الجزائر في القرن التاسع عشر”.
ودائما في مجال البيوغرافي أي دراسة سير الأعلام، كتب الدكتور بوعزيز دراسات ومقالات عن الشيخ عبد الحميد بن باديس، ومولود قاسم نايت بلقاسم، وغيرهما من الشخصيات العلمية والفكرية والأدبية الجزائرية التي خصص لها كتابا في مجلدين سماه: ” أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة”.
انتقل الدكتور بوعزيز في الثمانينيات إلى البحث في مجال الحركة الوطنية الجزائرية، فنشر وثائق في غاية الأهمية في كتابيه: “الاتجاه اليميني في الحركة الوطنية الجزائرية من خلال نصوصه”، و”الأيديولوجيات السياسية للحركة الوطنية الجزائرية من خلال ثلاثة وثائق جزائرية”.
وفي التسعينيات اقترب الدكتور بوعزيز من تاريخ الثورة التحريرية، فنشر عدة كتب حول أحداثها ورجالها وقضاياها المختلفة، أذكر منها العناوين التالية: “الاتهامات المتبادلة بين مصالي الحاج واللجنة المركزية وجبهة التحرير الوطني بين 1946و1962″، و” من وثائق جبهة التحرير الوطني الجزائرية 1954-1962″، و”الثورة في الولاية الثالثة”، و”ثورات القرن العشرين”، وإن كان التركيز كلية في هذا الكتاب الأخير عن الثورة الجزائرية.
في هذه الكتب عنصر ملفت للانتباه وهو أن الدكتور بوعزيز يكتفي في غالب الأحيان بنشر هذه الوثائق المهمة دون تحليلها أو تحقيقها تحقيقا علميا دقيقا. فكان همه الأول هو إخراج هذه النصوص من عالم النسيان إلى عالم الشهود، ليستفيد منها الباحثون في إثراء أعمالهم وأبحاثهم. أما مضامينها فهي جديدة تتضمن معلومات غزيرة جديرة بالدراسة والمناقشة.
وفي مجال التحقيق، نشر الدكتور يحي بوعزيز 5 كتب، أشرت من قبل إلى عنوانين لهما صلة بالأمير عبد القادر وعزيز بن الشيخ الحداد. أما الكتب الثلاثة الأخرى، فهي: ” تاريخ قسنطينة” لمحمد الصالح العنتري، و”روضة النسرين في التعريف بالأشياخ الأربعة المتأخرين” للشيخ محمد بن سعد الأنصاري التلمساني، و”طلوع سعد السعود في أخبار وهران والجزائر وإسبانيا وفرنسا” للآغا عودة المزاري.
والحق أن الدكتور يحي بوعزيز بقي وفيا لمنهجه في التعامل مع الوثائق والمخطوطات، فقد اقتصر هنا أيضا على التعريف بالمخطوطة ونشرها أكثر مما اهتم بتحقيقها العلمي الذي كان يأمل أن يقوم به طلبته الباحثون أو غيرهم من المهتمين بالمخطوطات.
من جهة أخرى، كتب الدكتور بوعزيز في قضايا أخرى وموضوعات متنوعة لها صلة بتاريخ إفريقيا أو تاريخ أوروبا الحديث اهتم بها في إطار البرامج الدراسية والوحدات العلمية التي كلف بتدريسها في الجامعة وإن كانت بعيدة عن اهتماماته الدقيقة. وفي الأخير، أشير إلى أن أعماله الكاملة طبعتها وزارة المجاهدين في عام 2009 في 23 مجلدا.
نشاطه الثقافي والفكري
لم يكن يحي بوعزيز طالبا منهمكا على التحصيل العلمي من حضور الدروس وحفظ المتون والجري وراء تحصيل العلامات لنيل الشهادات فقط، بل كان مهتما أيضا بحضور النشاطات الثقافية التي كانت تزخر بها تونس ومصر في الخمسينيات من القرن العشرين من الندوات الفكرية والأمسيات الشعرية والعروض المسرحية التي تجذب كل طالب طموح للاستزادة في كسب المعارف الجديدة التي لا يجدها آنذاك في حلقات الدروس والكتب المدرسية المقررة.
ولقد أحرز تجربة في هذا المجال فوظّفه بدوره لما كان مسؤولا عن الثقافة في رابطة الطلبة الجزائريين في تونس ثم في مصر. أذكر هنا على سبيل المثال إقامته في عام 1957 ندوة في تونس إحياء لذكرى الأمير عبد القادر، فخطب فيها كوكبة من العلماء والمثقفين التونسيين، أمثال: الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور، والمؤرخ الأستاذ عثمان الكعاك، والنقابي أحمد بن صالح، والمثقف الجزائري الأستاذ عبد الله شريط والشاعر الجزائري صالح الخرفي.
وتضاعفت همة الطالب بوعزيز في مصر حيث أشرف على اللجنة الثقافية التي كانت تستقبل نخبة من المثقفين الجزائريين والمصريين لإلقاء المحاضرات، وكذلك ساهمت في فتح مكتبة للمطالعة، وإصدار مجلة “الطالب الجزائري”، التي صدرت منها أعداد قليلة ثم توقفت لأسباب مادية.
دأب الدكتور يحي بوعزيز على العمل الثقافي والفكري، وشارك خلال مساره الطويل في الندوات والملتقيات التاريخية والفكرية والأدبية في الجزائر وفي الخارج. وقد جمع مجموعة من محاضراته التي قدمها في الفترة الممتدة بين منتصف عام 1976 وآخر عام 1984 عبر التراب الوطني وفي تونس، وليبيا، وألمانيا الغربية في كتاب عنوانه: “مع تاريخ الجزائر في الملتقيات الوطنية والدولية”.
لم يكتف بمشاركاته العلمية في التظاهرات الثقافية والندوات والملتقيات التاريخية، وإنما تعدى نشاطه إلى المساهمة في الكتابة الصحفية، فقد ساهم طوال إقامته في تونس في تحرير بعض الصحف، وهي: “لواء البرلمان” و”الشعب” ومجلة “الفكر” وبالخصوص جريدة “الصباح” والتي ينقل من خلالها للقارئ التونسي والعربي جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر منذ الاحتلال، ويقدم أخبارا عن تطوّر الكفاح المسلح في البلاد، ويقوم باستجواب الجزائريين اللاجئين في تونس الذين يروون معاناتهم اليومية، ويعبّرون عن آمالهم في النصر القريب للعودة إلى أرض الوطن المحرر.
ولقد واصل كتابته الصحفية بعد نيل الاستقلال، ولم يكف عن تزويد الصحف والمجلات الجزائرية بالمدد العلمي في حقل التاريخ، وبآراء في قضايا الثقافة والهوية التي كان يعالجها معالجة صارمة ولكن دون اندفاع.
هذه الشذرات من حياة الدكتور يحي بوعزيز سردتها هنا باختصار تذكيرا للمهتمين، وتنبيها للطلبة إلى قراءة أعماله، ودعوة للباحثين للاهتمام بتراثه والاشتغال عليه.