رمضانيات

الصيـــــام والدعـــــاء

أ.د/ مسعود فلوسي*/

الصيام عبادة من العبادات، لكنه عبادة متميزة، فهو في الحقيقة ليس عبادة مستقلة منفردة، وإنما هو عبادة مقرونة بعبادات أخرى. الصلاة مثلا عبادة مستقلة، لا تقرن بها عبادات أخرى. الزكاة عبادة مستقلة لوحدها، لا ترتبط بها عبادات أخرى. بينما الصيام هو عبادة جمع معه عبادات أخرى، وهذا ما يغفل عنه كثير من المسلمين حين يحسبون الصيام عبادة مستقلة، حيث تجد مسلما يصوم ولا يصلي مثلا، أو يصوم ولا يتصدق، أو يصوم ولا يدعو ولا يستغفر.
ربنا سبحانه وتعالى شرع لنا صلاة التراويح، فعلى الرغم من أنها مستحبة وليست واجبة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ندب إليها وحثنا عليها، ندبنا إلى قيام ليالي رمضان، وأقل ما يتحقق به القيام هو صلاة التراويح، ما الذي نفهمه من هذا؟ المفهوم المتبادر أنه إذا كانت الصلاة المستحبة مطلوبة فكيف بالصلاة الواجبة؟ أي أن الإنسان الذي يُضيع الصلاة الواجبة كأنه لم يصم، فليس له أجر، لأن الصوم ليس عبادة مستقلة، فربنا سبحانه وتعالى حثنا على الصلاة المستحبة حتى ندرك قيمة الصلاة المفروضة ولا نضيعها.
كما أن الشارع الحكيم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة في رمضان، والرسول عليه الصلاة والسلام أعطى المثل من نفسه، فكان أكثر الناس تصدقا في رمضان، يقول سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ”، فهو صلى الله عليه وسلم أجود الناس في سائر الأيام، ومع ذلك فإن جوده يتضاعف ويزداد في رمضان، وصدقته تستفيض في هذا الشهر، حيث يأتيه جبريل كل رمضان يتدارس معه القرآن، لذلك لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ قال: “صدقة في رمضان”.
فإذن الصيام بدون صدقة، يكون ناقصا، صاحبه لا يحصل على الأجر الذي لأجله شرع الصوم، لأن مهمة الصوم في حياة الإنسان أن يُعرِّفَه بحقيقة الحياة ويجعله يحس بالضعفاء والفقراء والمساكين، فإذا لم يحرك فيه الصوم هذه الأحاسيس والمشاعر والعواطف ويدفعه إلى التراحم والتضامن، فمعنى ذلك أن صيامه لم يترك في نفسه أي أثر ولذلك لا يكون له فيه أجر.
هناك عبادة أخرى مهمة أيضا، أمرنا الله عز وجل أن نحرص عليها، وأن نجتهد فيها، في هذا الشهر وخاصة في الليالي العشر الأخيرة من رمضان، وهي عبادة الدعاء.
آيات الصيام في سورة البقرة تتحدث عن أحكام الصيام، حكم صيام المسافر والمريض، الأحكام المتعلقة بالعلاقة الزوجية في رمضان، وغيرها، وسط هذه الآيات نجد آية يبدو – من حيث الظاهر- أنه لا علاقة لها بأحكام الصيام، لكن هذا يدعونا إلى التأمل والتساؤل: لماذا ربنا سبحانه وتعالى وسط آيات الصيام، يورد لنا حكما آخر لا يتعلق بالصيام، في قوله سبحانه وتعالى: [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ]؟ فجاء أولا بأحكام الصيام ثم أورد هذه الآيات ثم رجع إلى أحكام الصيام مرة أخرى: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ….]، فهذه الآية التي تتعلق بالدعاء أدرجت وسط آيات الصيام، ما ينبغي فهمه هنا أن من أهم ما ينبغي أن يحرص عليه المؤمن وأن يجتهد فيه مع صيامه هو أن يكثر من الدعاء، والدعاء هو التضرع إلى الله سبحانه وتعالى والتوجه إليه بطلب خير الدنيا والآخرة مما ليس فيه معصية أو عدوان.
فالله عز وجل يريد من عباده، وهم صائمون، وهم قائمون ليالي رمضان، أن يجتهدوا في عبادة مهمة وهي عبادة الدعاء.
الدعاء عبادة تذكر الإنسان بحقيقته، وتذكره بحاجته إلى ربه، وأنه من دون الله لا شيء، فلو تركه الله لما استطاع فعل أي شيء، هذه الحقيقة يتذكرها الإنسان حين يرتبط بالله عز وجل بالدعاء. ولذلك يأمرنا ربنا سبحانه وتعالى أن ندعوه دائما، فالتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء واجب بصفة عامة: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ]، المعنى أن الإنسان الذي لا يدعو الله عز وجل ولا يسأله سبحانه وتعالى ولا يتوجه بحاجاته إليه، فهذا مثله مثل الكافر، فحتى ولو كان مسلما إلا أنه مثل الكافر، لأن الكافر هو الذي يستغني عن ربه عز وجل وينسى موقف العبودية أمامه، ولذلك الكافر يدخل النار، فالمسلم الذي لا يدعو ولا يسأل الله عز وجل كأنه مستكبر على الله وغير محتاج إليه سبحانه وتعالى..
إن المؤمن بحاجة إلى ربه عز وجل في كل شيء وفي كل شأن، وهذه الحاجة لابد من إظهارها بالدعاء والسؤال: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]، والإنسان يحقق فعلا موقف العبودية حين يدعو ربه ويسأله حاجته، فهو قد يصلي ولا يحقق موقف العبودية إذا كان يؤدي صلاته على سبيل العادة فقط، والكلام الذي يردده فيها لا يدرك معناه، فقد يصلي ولا يستحضر موقف العبودية، لكن في الدعاء هو يمارس العبودية.
وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء وصفا دقيقا وحدد حقيقته تحديدا بليغا حين قال عليه الصلاة والسلام: “الدعاء مخ العبادة”، فجسم الإنسان الجهاز الرئيس فيه هو الجهاز العصبي ممثلا في المخ، إذا توقف هذا الجهاز لا تتبقى للإنسان حياة، وحتى إذا بقيت الروح إلا أن الأعضاء كلها تتوقف، كذلك الحال في العبادة التي لا دعاء معها فهي مثل الجسم الذي تلف جهازه العصبي.
الصلاة إذا لم تكن مقرونة بالدعاء، تصبح هيكلا بلا روح، ولذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندعو في أثناء الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِن ربِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ) [رواه مسلم]، فلكي نحقق موقف العبودية ونستحضر الخشوع لابد من الدعاء.
كذلك شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعية ندعو بها بعد الصلاة، حتى يبقى موقف العبودية مستمرا.
في رمضان، سن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندعو عند الإفطار: “اللَّهُمَّ لَكَ صُمْت وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرت فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ”، فهذا دعاء جميل، فيه استشعار لنعمة الله وفضله، وطلب منه عز وجل أن يديم هذه النعمة وهذا الفضل، فيه امتنان لله سبحانه وتعالى بنعمته على عبده بما شرع له من الصيام، وبما أباح له من النعم بعد الصيام.
والدعاء مطلوب لذاته، لا لهدف آخر، بمعنى أن المؤمن مطالب بأن يدعو الله عز وجل لأجل الدعاء، لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن ندعوه وأن نسأله وأن نتوجه إليه وأن نتضرع إليه، سواء كانت الاستجابة أم لم تكن.
فليس للعبد أن يشترط على ربه أن يستجيب له، المطلوب منه أن يدعو، كما في الصلاة والصوم وغيرها من العبادات، فالصلاة مطلوبة لذاتها والصوم مطلوب لذاته والزكاة مطلوبة لذاتها والحج مطلوب لذاته، كذلك الدعاء مطلوب لذاته، ومن واجب المؤمن أن يدعو ربه سبحانه وتعالى، لكن من فضل الله عز وجل أنه وعدنا بالاستجابة: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]، فيقينا إذا دعوت يستجيب الله دعاءك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن ربكم حيي كريم يستحى من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا” [رواه أبو داود والترمذي]. لكن هذه الاستجابة تكون كما يشاء الله لا كما يريد العبد، فقد يطلب العبد شيئا ويعطيه الله شيئا آخر، لأنه سبحانه وتعالى يعرف ما يصلح للعبد، فهو الذي خلقه وهو الذي يرزقه وهو الذي يرسم حياته في هذه الدنيا وهو الذي يحفظه، ولذلك فهو أعرف من العبد بما يصلح له، العبد لا يعرف، فقد يعتبر شيئا ما مصلحة له وهو في الحقيقة مفسدة ومضرة له، ولذلك لا يعطيه الله إياه إذا طلبه وإنما يعوضه بدلا منه شيئا آخر، أو يدفع عنه بلاء عظيما كان سيأتيه وهو لا يعرف فيصرفه عنه، لكن الاستجابة ستكون يقينا، ولذلك أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نستيقن الإجابة مع الدعاء فقال: “‏القلوب أوعية، وبعضها ‏[‏أوعى‏]‏ من بعض، فإذا سألتم الله عز وجل أيها الناس، فسلوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل”، فلابد أن يكون لدى العبد يقين أن الله عز وجل سيستجيب دعاءه، ولكن كما شاء سبحانه وتعالى لا كما يريد العبد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل‏”‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا نبي الله وكيف يستعجل‏؟‏ قال‏:‏ ‏”‏يقول‏:‏ قد دعوت ربي فلم يستجب لي‏”‏‏.‏
ومما ينبغي أن يحرص عليه المؤمن؛ أن يدعو بخير، فالله عز وجل يستجيب الدعاء إذا كان خيرا، أما إذا كان شرا أو فيه عدوان على الغير أو فيه ظلم فإنه سبحانه وتعالى لا يستجيبه، بل إن هذا النوع من الدعاء محرم شرعا ولا يجوز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزَالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَم يدعُ بإِثمٍ، أَوْ قَطِيعةِ رَحِمٍ) [متفق عليه].
كما يجب أن يغلب على الدعاء طلب خير الآخرة، لأن الآخرة غير مضمونة، أما الدنيا فما كتب للإنسان فيها مضمون، فعندما يطلب الإنسان المال أو الجاه أو الولد، هذه كلها أمور مقدرة للإنسان قبل أن يولد وهو سبحانه وتعالى يملك أن يزيد فيها أو ينقص منها لأن القدر بيده سبحانه يصرفه كيف يشاء، كما أنه عز وجل يقدر لك الأمور الدنيوية بحسب ما هو مصلحة لك، فالجانب الدنيوي مضمون، أما الجانب الأخروي فهو غير مضمون؛ النجاة من النار والفوز بالجنة هذا غير مضمون، والإنسان لا يدخل الجنة بعمله وإنما يدخلها بفضل الله وكرمه ورحمته، لأن الله سبحانه وتعالى لو حاسبنا بأعمالنا مقابل نعمه علينا، لكانت نعمة واحدة كافية بأن تذهب بالأعمال كلها، فالله عز وجل يعاملنا بكرمه، ولذلك يجب علينا أن نسأله سبحانه وتعالى من كرمه في الآخرة.
فالدعاء بخير الآخرة هو الأنفع والأفيد، لكن ليس عيبا أن يطلب الإنسان من ربه شيئا من خير الدنيا إذا كان حلالا وكان خيرا، لكن دون أن يشترط على الله أن يستجيب لما يطلب وإنما يترك ذلك لله عز وجل لأنه أعرف بمصلحة العبد. ذلك أن الاشتراط على الله في الدعاء سوء أدب مع الله، والموقف الواجب على العبد هو التعامل مع ربه سبحانه وتعالى بالذل والإخبات والخضوع والتسليم والطاعة والإنابة، لأنه ربنا سبحانه وتعالى وخالقنا ورازقنا وحافظنا وساترنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي‏:‏ “‏قال الله تعالى‏:‏ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني‏”‏‏.‏
فلنجتهد في الدعاء، وخاصة في الليالي العشر الأخيرة من رمضان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا ما ندعو به: “اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com