نكتشف القرآن
أ.د. عبد الملك بومنجل/
ما غُيِّبت هذه الأمة عن مرتبة الريادة في العالم إلا لتغييبها القرآن الكريم منهجا للحياة يمدها بعناصر القوة وقيم الحضارة وإكسير الحياة. إلا لهجرها إياه هجرَ التلاوة وهجرَ التدبّر وهجرَ العمل. هجرا قد يقصر وقد يطول؛ ولكنه هجرٌ طويل كنود، يبلغ أن ترى معه ألوفَ المثقفين، فضلا عن غيرهم، يجهلون من آياته أقصرَها، ومن أحكامه أظهرَها، ومن أخباره أشهرَها، ولا تسأل عن العلم بأحكام تجويده، وتفسير آياته، وفقه مقاصده وأحكامه!
وفي رمضان، يزدحم المؤمنون في بيوت الله يصلّون التراويح، أو يجتهدون على غير العادة في بيوتهم يرتلون قدر ما يستطيعون من القرآن الكريم، فيتاح لكثير منهم أن يسمعوا آياتِ القرآن كلَّها، وسوره جميعَها.. ولربما سمعوها من إمامٍ أوتي مزاميرَ داود، فإذا هو يستولي على أسماعهم، ويستحوذ على قلوبهم، ويُسمِعهم القرآن العظيم كأنما لم يسمعوه من قبل!
هو شهرُ القرآن إذاً: فيه أُنزِل، وفيه يُتلى كلُّه أو جُلُّه في صلاة التراويح، وفيه يختمه المؤمنون قراءةً كاملةً مرةً واحدةً على الأقل.
في رمضانَ يعود كثير من المسلمين إلى القرآن الكريم بعد هجرٍ طويل، يسمعون آياته كلَّها وليس قليلا مما يحفظون أو يسمعون الإمام يتلوها في الصلوات الجهرية. يسمعون القرآن كله؛ وقد يشعر كثير منهم أنه يكتشف القرآن اكتشافا: يعلم منه ما لم يعلم من قبل، ويتذكّر من مواعظه ما ظل غافلا عنه مدة طويلة من الزمن، ويتفطّن إلى أن القرآن حياةٌ كاملة تستوعب الحياةَ جميعَها، وليس كتاب موعظةٍ فقط، أو أوامرَ تتصل بعبادات الصلاة والصوم والحج والزكاة وبر الوالدين، وتحض على مكارم الأخلاق لا أكثر.
تُتلى عليه في رمضان قصصُ الصراع بين المستضعفين والمستكبرين، وأخبارُ الأنبياء يبلِّغون رسالةَ التوحيد بمعناه العميق إسلاما لله في كل شؤون الحياة، وتحررا من العبودية لغير الله في كل حركةٍ من حركات القلب وحركات الجسد، ومقاومةً مستمرة لكل أشكال الظلم والإفساد في الأرض. وتُتلى عليهم آياتُ المواريث، وآيات المعاملات المالية، وآياتُ القيم الأخلاقية والقوانين الاجتماعية، وآياتُ السياسة الشرعية لشؤون الأمة: تحرّيا للعدل، وإقامةً للشورى، وتوحيدا للصف، واعتصاما بحبل الله، ومجاهدةً للعدو، وتعاملا مع المختلف، والتزاما بمرجعية الوحي في كل شؤون الحياة.
يسمع المؤمنون ذلك، كما يسمعون الآياتِ تتردد مبيّنة الحدود الفاصلة بين الإيمان والكفر حتى لا التباس، وعارضةً مشاهدَ من يوم القيامة تتحرق معها القلوب الحية شوقا إلى الجنة وتتقطع خوفا من النار، فيشعر بعضُهم بالدهشة: كيف لم يتفطنوا من قبلُ إلى أن القرآن يتضمن كل هذا، ولا يكاد يغادر صغيرة ولا كبيرة من شؤون الحياة؟ ولماذا يأخذ أكثر الناس من القرآن قليلَه مما لا يتعارض مع مصالحهم الدنيوية ويهجرون كثيرَه؟ ولمَ يؤمنُ الناس، لاسيما الساسةُ، ببعضِ الكتاب ويكفرون ببعض؟
في رمضان ينتبه الذين يتدبرون ما يسمعون على أن القرآن منهاجُ حياة هجروا أكثرَه ولم يُبقوا إلا على أقلِّه. وأن بين الجلال الذي يسمعون والهزال الذي يعيشون بونا بعيدا. وأن الأمة قد صارت بهجرها للقرآن تلاوةً وتدبّرا وعملاً غيرَ الأمة؛ كأنما الكتابُ ليس كتابَها، والخطابُ ليس موجَّها إليها؛ أو كأن القرآن نزلَ ليُستمتَعَ بحلاوةِ إيقاعِه، وبديع أسلوبه، وليس وراء ذلك التلذذ بسماع آياته يرتِّلُها قارئٌ مجوِّد التزامٌ بتجسيدها على أرض الواقع، دون تفريقٍ بين آيةٍ وآية؛ إذ كلُّها من الله، وكلُّها مُنزَلٌ للتعبد به تلاوةً وعملا وليس ترنُّما وحسب.
في رمضان، تتفتّح أكمامُ الصلواتِ والصفحات عن أزهار القرآن، فيتجلى الجمالُ والجلال، والحلاوة والفخامة، والنظام والانسجام، والشمول والإعجاز؛ فيتقل السامع من روضة إلى روضة، ومن بهجة إلى بهجة، ومن عبرة إلى عبرة، ومن مشهدٍ من مشاهدِ الصراع في الدنيا بين الإيمان والطغيان، إلى مشهدٍ من مشاهد القيامة مُكلَّلٍ بأكاليلِ الرضوان أو مزَلزَلٍ بأحداثٍ تشيبُ لهولِها الولدان.
في رمضان تعرف الأمةُ أن لها كتابا وأيَّ كتاب، وأن لها منهاجا وأيَّ منهاج، وأنها هجرت مصدرَ عزِّها وحريتِها وفخارِها وثرائها، وأيَّ هجر!
في رمضان نكتشف كنزنَا المهجور، وعزَّنا المفقود: نكتشفُ القرآن.