مــــا يـــراه الــحســــــــان فـــي شهـــر الرحمــــة والغفـــــــران
أ. آمال السائحي/
بعد بضعة أيام تستقبل الدول الإسلامية والعربية شهر رمضان بفرحة عارمة، وسعادة غامرة، فترصّع مساجدها وشوارعها بالزينة والرايات المرحّبة بهذا الشهر، كأنما كلّ ما مرّ عليها من أيام وشهور خلال السنة، ليس إلا محطة انتظار زمنية يتشوق من يجلس فيها إلى قدوم رمضان شهر الرحمة والغفران. ما أعظم العبادات في ديننا الإسلامي، فهي تعطي دفعات جديدة، يرتقي بها المسلم إلى مراتب السعادة في الدارين، تجدنا عند الصلاة، بمجرد تكبيرة الإحرام نـنسلخ كلية من متاعب الدنيا ومشاغلها، فنعيش في جو الراحة النفسية والجسمية معا، وتأتي الزكاة لتطهير هذه النفس من الشوائب التي علقت بها، فإذا أذن مؤذن الإفطار هتفت تلك القلوب التي صامت عن كل ما نهى الله تبارك وتعالى عنه، لتروي عطشها بما أحله الله لها من الطيبات …
بين الجزائر والأردن وسوريا ، والمغرب وتركيا، والمغتربين في أوروبا اختلفت تفاصيل العادات والتقاليد، وتفرّدت كل واحدة من هذه المدن بتقليد خاص في الاحتفال برمضان، مع هذه الجائحة التي ضربت العالم بأسره، ولكن يبقى الجامع بينها جميعا، هو التعبّد لله والصلاة وسيادة الشعور بالسعادة مهما كانت طبقة الصائم الاجتماعية…
وقد كان لنا هذا الحوار مع سيدات فضليات من الجزائر، وسوريا، والمغرب، والأردن، ومن الجالية في أوروبا، لنضع بين يدي القارئ لا مجرد عادات وتقاليد سائدة في رمضان فقط، وإنما شعور المسلم بأخيه المسلم مهما بعدت المسافات، في ظل هذه الجائحة، مع أنفسنا، مع أبنائنا، مع من حولنا، لنعرف القيمة الإيمانية، في الشهر الفضيل، وكيفية التأقلم مع هذه الجائحة، وكيفية الاستزادة من الطاعات، في هذا الشهر الكريم…بداية
تقول الأستاذة الفضلى عتيقة نابتي من الجزائر:
لبعض الأوقات بركة ولبعض البشر بركة ولبعض الأماكن بركة، من البشر ذكر سيدنا عيسى عليه السلام وبركته كانت هي معجزته بشفاء المرضى باللمس، ومن الأماكن مسجد النبي والحرم المكي والمسجد الأقصى (الذي باركنا حوله)، ومن الأوقات أيام وشهور وأكثر الشهور بركة هو شهر رمضان، شهر من أشهر الله التي يحسن بالمسلم أن يجعلها من محطات التغيير لديه لبركتها، بركة في الوقت وبركة في الأجر وبركة في الرزق، تهدأ النفوس وتتوجه إلى خالقها عابدة قائمة عاملة على رضاه، شهر رمضان ورحلة تغيير تبدأ من رجب وشعبان ثم تتواصل الرحلة عبر الشهر الفضيل باستخدام كل المشاعر وكل الجوارح للتعبد…
يستقبل القلب واللسان رحلة التغيير عبر صدق النوايا وعبر الذكر والدعاء والصلوات وقراءة القرآن وكف اللسان عن الأذى، ويستقبل البدن رحلة التغيير بالصدقات والسير نحو الخيرات وتنويع العبادات والإكثار منها والزيارات وحضور مجالس الذكر والعلم، رحلة تزينها الدعوات الخالصات عجلتها جوارح العبد طاقتها نية صادقة بوصلتها رضا الله، رحلتنا مع الشهر الفضيل تحتاج إلى زاد وحقائب ملأى بالزاد، ترى ماذا نضع في حقائب رمضان؟
أول ما أضعه في حقائبي الرمضانية استحضار فضائل رمضان فيه تصفد الشياطين، تفتح أبواب الجنة، تغلق أبواب جهنم، شهر التوبة والغفران، فيه استجابة الدعاء، فيه ليلة القدر، التركيز على النية فهي خميرة كل فكرة ومن هنا نستطيع أن ننظم عقولنا أولًا وأعمالنا ثانيًا ونحصد الجودة في الأعمال والمخرجات والمنتجات، ونبني إنجازاتنا على أساس ثابت وقوي يعتمد عليه بعد توفيق الله، شهر رمضان شهر النوايا إذا استحضر فضائل رمضان، أصنع له نية وأركّز عليها، فهي خميرة المنتوج الرمضاني من الأجر والثواب، أحرص على أن يكون هذا الشهر المبارك نقطة محاسبة وتقويم لأعمالي، أحرص على المحافظة على الصلاة، وصلاة التراويح في جماعة، في ظل هذه الجائحة يمكن أن تكون صلاة الجماعة في البيت، وهي من أحسن الصور التربوية، صرف المال دون الإسراف وفرصة للصدقة وصلة الرحم، أعوّد لساني على دوام الذكر، أحرص على الاستزادة من معرفة تفسير القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم والسيرة العطرة فطلب العلم عبادة، أضع برنامجا لفعل الخير، الصفح عمن بيني وبينه شحناء، عدم الإسراف، الغيبة والنميمة، التلفاز ومضيعة الوقت، وسائل التواصلالاجتماعي.. وأخيرا : اللهم بلغنا رمضان وأعنا على خوض غمار رحلته.
أما الدكتورة صفية الودغيري من المغرب الشقيق حدثتنا عن العبادات وعن العادات في هذه الأسطر:
إنّ ما كنّا نراه في الأعوام الماضية داخل هيئاتنا وطبقاتنا الاجتماعيّة من ممارسات لعادات سيّئة في رمضان مما يندى له الجبين، لآثارها السّلبية على سلوكنا ومعاملاتنا، إلا أننا لاحظنا منذ بداية انتشار مرض كورونا في العام الماضي، ومع ظروف فرض قانون الحظر الصِّحّي، ومنع جميع أشكال التَّجمُّعات وأنشطة الإفطار الجماعي، والتّحذير من الاختلاط في الأماكن والمرافق العامّة، وضرورة التّباعد وإلغاء الزّيارات العائليّة، ومظاهر التعبُّد الجماعي وصلاة التّراويح في المساجد ..
ومن الأسئلة التي تتوارد على الأذهان بمقتضى ما عشناه في رمضان المنصرم من المحن والشّدائد ماذا علينا أن نتّخذه من التّدابير لاستقبال شهر رمضان لهذا العام ؟؟ ألسنا بحاجة ـ أمام هذا الواقع المتأزِّم ـ إلى وقفات محاسبة ومراجعة، ووقفات لتصحيح أخطائنا ومساوئنا وانحرافاتنا، ووقفات لردع أهوائنا، وكبح طوفان شهواتنا وملذّاتنا المحرّمة؟؟ أليس من الواجب علينا جميعا ـ على اختلاف أجناسنا وشعوبنا ولغاتنا ـ أن نقف صفًّا واحدا، ونطبّق قواعد التّكافل والتّراحم فيما بيننا، التي وضع لبنات بنائها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (مثل المؤمنين في توادُّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمّى) ؟
والجواب: يكمن في سعينا واجتهادنا لتحقيق ثورةٍ وجدانيّة وفكريّة غير تقليديّة، تربطنا ـ في هذا الشهر الكريم ـ وتربط النّاشئة وجيل المستقبل بميثاق التديُّن الحقيقي في الأقوال والأعمال، يصلهم من جديد بالغاية من وجودهم، ويصلهم بنيّة التقرّب إلى الله وطاعته ومرضاته، ليتخلّصوا من تغليب حكم العادات وينتقلوا إلى تغليب حكم العبادات…
أما السيدة ياسمينة صاف من ايرلندا الحاصلة على ليسانس في علم النفس التربوي: فتبدأ حديثها وتقول عن رمضان في الغربة:
الحديث عن وضعنا حاليا بسبب فيروس كورونا ذو شجون … هاجرت إلى إيرلندا في 2002 وكانت الأمور على ما يرام طيلة إقامتي هنا، الحمد لله وفقني الله في إنجاب ابنتين إلى جانب ولدين ولدوا بالجزائر… وفقني الله في الدراسة هنا تخصصت كمربية في الروضة Childcare وهو قريب من تخصصي في علم النفس التربوي ليسانس من الجزائر العاصمة… طيلة وجودي هنا سعيت لتربية أولادي ومتابعتهم في الدراسة والتربية لذلك فاتتني فرصة الدراسة بالجامعة هنا رغم أنني كنت مؤهلة لذلك…
الواقع أن المسجد كان الملاذ الوحيد لنا للشعور بالهوية ولقاء الأصدقاء والأخوات ونحن بعيدين عن الأهل والأحباب ولذلك بظهور فيروس كورونا وغلق المساجد نشعر بغربة حقيقية لأن المسجد هو المكان الذي ننفس فيه عن همومنا خاصة صلاة التراويح ولقاء الأحبة والمحاضرات العلمية التي تبرمج من حين لآخر …والمسجد أيضا هو المكان الذي نجتمع فيه ونتعرف على احتياجات بعضنا البعض، لمساعدة كل منا الآخر… وغلق الحدود وفقدان إمكانية السفر إلى بلادنا محنة كبيرة … كنا نأمل أن تفتح الحدود نهاية جويلية لكن أعلنوا عن عدم إمكانية ذلك وهذا يعني أننا لا نستطيع السفر هذا الصيف ويبقى أملنا في الله كبيرا لرؤية الأهل والأحباب عن قريب، عزائي أنني محافظة على تماسك أسرتي الصغيرة، وأحاول بكل ما أقدر أن نجتمع في رمضان لصلاة المغرب والإفطار معا …
ثم عرجنا على سوريا الشقيقة مع الأستاذة مروة جنيد حدثتنا هي بدورها عن الشهر الفضيل فقالت:
يستقبل شهر رمضان قبل ثلاثة أو أربعة أيام، وفيه متخصصون برؤية الهلال، والمحكمة الشرعية تفتح أبوابها لاستقبال الذين شاهدوا هلال رمضان، ثم يتم تبليغ القاضي الشرعي الأول بالعاصمة دمشق، وهو بدرجة وزير برؤية الهلال، وبعد ذلك يقوم القاضي بإعلان بداية شهر رمضان العظيم، يمارس أهل دمشق عادات قديمة عريقة في رمضان توارثوها عن أجدادهم، تحكي روح التراث والأصالة والمحبة والتواصل الديني والأخلاقي والحياتي فيما بينهم، وهي عادات تكاد أن تندثر هذه الأيام، إلا من بعضها تعود الأسرة أولادها على الصيام منذ الصغر، ويكون بتشجيعهم وإحضار الإفطارية لهم (أكلات يحبها الأطفال) وإيقاظهم على السحور، وأول خطوة نحو الصيام، هو صيام العصافير، (درجات المادنة) وهي أن يتناول الطفل الطعام عند كل آذان، حتى يتعود على الصيام، ويصطحب الأب أولاده الذكور لصلاة التراويح في المسجد…
في ظل جائحة كورونا، قلت التجمعات بين الأسر، بسبب حظر التجوال، الذي كان يبدأ قبل المغرب، إلى ما بعد فجر اليوم الجديد، وبذلك أغلقت الجوامع، وحُرم العباد من صلاة التراويح جماعة في المسجد، فرج الله عن الأمة الإسلامية، وعافانا الله آمين ..
أما الطالبة في علوم التربية سمية ولطاش من فرنسا أدلت لنا بهذه الكلمات:
أيام رمضان في الغربة مختلفة تماما عما يمكن أن نعيشه ونحن في بلادنا وبين أهلينا، من جهتي أول مشكلة واجهتني وأنا استقبل هلال أول رمضان لي في الغربة كانت تحديد غرة رمضان، تفاجأت بجدل كبير حول مصداقية الجهات التي تعنى بالجالية، في موضوع ترقب أول أيام الصوم، الناس هنا منقسمون إلى طرفين، طرف يثق في الجهات الرسمية ويتبع إعلانها عن أول أيام الصوم، وطرف آخر يفضل اتباع الدولة السعودية باعتبارها بلاد الحرمين، طبعا المؤلم هنا هو فتنة انشقاق صف المسلمين…
لكن بما أننا نتحدث عن الغربة فالأمر يتراوح بين المعاناة والتعود عليها.. مع مرور الوقت لابد لنا أن نتعود ونخلق أجواءنا بأنفسنا، خاصة أن هذا الشهر يمثل لنا فرصة عظيمة لأداء شعيرة الصيام، والتقرب إلى الله جل وعلا بالطاعات، والتعرض لما منّ به علينا فيه من النفحات.
بهذه المناسبة نحاول تغيير ديكور البيت وشراء بعض الأواني، وإضفاء نكهة رمضانية على الأجواء.. طبعا أحيانا نحضر لكل هذا عند زيارتنا للجزائر، فنشتري مسبقا ما نحتاجه من هناك.. أما في السنوات الأخيرة فقد أصبح الكثير من المستلزمات متوفرة في الأسواق الفرنسية.
طبعا جو رمضان يبقى منحصرا في البيوت، لذلك شخصيا أتفادى الخروج في نهار رمضان إلا للضرورة.. لأننا في بلد غير مسلم، ومجرد الخروج ورؤية المطاعم مشرعة، والناس يأكلون ويشربون، أمر يشوش عليك جو رمضان، وأحيانا يخدش مشاعرك خاصة، إذا تعلق الأمر برؤية المحظورات.. لذلك نحن نحاول قدر المستطاع استثمار اجتماعات العائلة حول الفطور، وبعده الذهاب إلى المساجد لأداء صلاة التراويح، أما في ظل هذه الجائحة، فالصلاة في البيت..
أما الأستاذة ميساء درس من الأردن الشقيق عندما سألناها عن رمضان ونفحاته الطيبة قالت:
عندنا في الأردن قبل رمضان الناس يقومون بتزيين منازلهم، يضعون الأضواء على النوافذ (ضوء على شكل هلال ونجمة)، وكل شخص ينتظر قدوم الشهر، ويعد لقدومه باليوم فرحا به، والبعض يبدأ بتجهيز قلبه قبل قدوم الشهر ويبدأ بالأعمال التي يرغب بالقيام بها بالشهر قبل قدوم رمضان…
في رمضان قبل الفجر نتسحر، وعند الفطور يتجمع جميع أفراد العائلة ونفطر على تمر ولبن أو عصير أو ماء حسب عادات العائلة ثم نصلي وبعدها نكمل الفطور، وبعض العائلات تفطر مباشرة قبل الصلاة، وتكثر مأكولات المنسف أو المقلوبة عند الفطور، ومن الحلويات المشهورة جدا القطايف عجينة دائرية الشكل يتم حشوها بالجبن أو المكسرات أو القشطة ويتم قليها أو شويها وتوضع بالقطر… وتتم صلاة التراويح بالمساجد، لكن مع جائحة الكورونا يصليها العائلات بالبيوت.
وأخيرا نضيف ما قدمه الباحثون في هذا المجال وعلى سبيل المثال لا الحصر من جامعة «غرونوبل الفرنسية» عن دور الصيام المتقطع في خفض معدل حدوث بعض الأورام الليمفاوية إلى الصفر تقريباً، بحسب تجارب أجريت على الثدييات. كما أظهرت دراسات أخرى أن الصوم المتقطع يرفع من معدل النجاة بين الأفراد، ممن يعانون من إصابات في نسيج الكبد، والتي تمتلك قابلية للتحول إلى أورام في المستقبل.
ويضيف العلماء: «إن الصوم المنتظم مع اتباع نظام غذائي طبيعي مع التقليل من أكل الملح والوجبات السريعة، يمكن أن يجعل عمل الخلايا أكثر انتظاماً، ويمنع تحولها إلى خلايا سرطانية، وبالتالي يكافح انتشار السرطان قبل حدوثه، وفي دراسة حديثة نشرت في مجلة علم النفس والغدد الصماء، قام بها فريق من علماء جامعة كاليفورنيا، وأثبتوا أن الصيام لفترات متقطعة، يؤدي إلى وقف انقسام الخلايا السرطانية، وقد كانت فعالية الصيام أكبر من الحمية.
فهذه فرصة ذهبية لعلاج هذا المرض مهما كان. فأمراض الكبد والكلى والقولون… وغير ذلك من الأمراض المستعصية، وجد العلماء علاجاً ناجعاً لها، وهو الصوم!
وعندما يدرك المسلم أهمية الصيام في علاج مثل هذه الأمراض، فإنه بلا شك يصبح أكثر اشتياقاً لهذا الشهر، بل ويشعر بالسعادة والفرح والسرور، أثناء ممارسته فريضة الصيام.
أما الأثر الشفائي فقد أكده الكثير من الباحثين وخرجوا بنتائج يقينية وهي أن الصوم هو أفضل وسيلة لمعالجة السموم المتراكمة في الخلايا! فالصوم له تأثيرات مدهشة، فهو يعمل على صيانة خلايا الجسم، ويعتبر الصيام أنجع وسيلة للقضاء على مختلف الأمراض والفيروسات والبكتيريا، وربما نعجب إذا علمنا أن في دول الغرب مراكز متخصصة تعالج بالصيام فقط!! وتجد في هذه المراكز كثيرا من الحالات التي استعصت على الطب الحديث، ولكن بمجرد أن مارست الصيام تم الشفاء خلال زمن قياسي! ولذلك أمرنا الله بالصيام فقال: {وأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184].
نسأل الله لنا ولكل الأمة الإسلامية جمعاء، صياما وقياما مقبولين…
أ. سائحي