قوم البقرة…
يكتبه د. محمّد قماري/
تقع سورة (البقرة) في ترتيب المصحف الشريف في المرتبة الثانيّة، بعد سورة الفاتحة، وتمثل من ناحية حجم النص القرآني كله حوالي خمسة عشر من المئة، إذ شغلت حوالي أربعة أحزاب إلا ثمنا، وقال ابن كثير، رحمه الله، قال العادون: آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات، وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائتان وإحدى وعشرون كلمة، وحروفها: خمسة وعشرون ألفا وخمس مائة حرف…
وموقع سورة البقرة في موضع الصدارة من المُصحف، لم يأت اعتباطًا فهي بعد سورة الفاتحة بآياتها السبع، وهي أقرب لمناجاة المؤمن مع ربه وهو يستفتح قراءة الوحي، جاءت سورة البقرة تحدد معالم ذلك الإيمان، فالناس يفترقون إزاء الإيمان إلى فصائل ثلاثة: فصيل المؤمنين وحددت مواصفاتهم في خمس آيات، وفصيل الكافرين وحددت صفاتهم في آيتين، وفصيل المنافقين وذكروا في ثلاثة عشر آية…
وفي سورة البقرة وقوف عند قصة بداية الخلق، وقصة بني إسرائيل، وأحكام الطلاق، والمعاملات المالية…كل ذلك يدور في فلك العقيدة التي جاءت في آية الكرسي فالله (حي قيوم) و(لا تأخذه سنة ولا نوم)، ولا أحد يشفع عنده أو يتوسط إلا بإذنه، وهذا هو قطب رحى (قصة الإيمان) منذ بدء الخلق، وجعل آدم، عليه السلام، (خليفة) في الأرض، وتلقيه (كلمات) من السماء ليسدد مسيرته ويصوّب خطاه…
كل ذلك وغيره من أوامر ولفتات وقصص حفلت به السورة، لكن ما سر هذه التسميّة: سورة (البقرة)؛ والسورة كما رأينا حافلة بالمواعظ والأحكام والعبر؟
إنَّ قصة بقرة بني إسرائيل على عهد موسى، عليه السلام، قصة من بين العديد من القصص التي وردت في القرآن الكريم، كل تلك القصص تتحدث عن نفسيّة القوم، وهي إذا ما قارناها بقصة السامري الذي غدر بموسى وهارون، عليهما السلام، تبدو هينة وبسيطة، وإذا ما وزنت بذلك الموقف المخزي للقوم وهم يخذلون موسى عند مدخل المدينة المقدسة، وهو يدعوهم للدخول، فيصرخون في وجهه: «فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ» (المائدة/24) تبدو قصة البقرة مرجوحة في الميزان…
أي تميز لقصة البقرة حتى تتصدر اسم هذه السورة كلها، بما فيها من ترتيب لحقيقة الإيمان والأحكام التي تنبثق عنه في حياة الناس، وربطها بقضية (الكلمات) التي تلقاها آدم بعد أن خار عزمه، ثم تاب عليه وواصل سيره على هدى من تلك الكلمات؟
الحقيقة التي لا تخطئها عين القارئ لكتاب الله، هي أن قصة بني اسرائيل تتخلل آيات الكتاب الكريم، وهي أمة لا تشكو من فراغ في النصوص، ولا من خبرة في تاريخهم فهم (أهل الكتاب)، لكن اجتمعت فيهم جميع علل التدين، فالتخمة في النصوص والأدبيات لا تغني من اعتاد المراوغة وفسدت طويته، وفي قصة البقرة تلخيص لهذا المسلك الشاذ في الالتفاف عن الأوامر والمماطلة في تنفيذها بقصد التنصل منها…
القصة، كما جاءت في القرآن، تتلخص في جريمة قتل والجاني مجهول، ولجؤوا في معرفة الحقيقة إلى النبي موسى، عليه السلام، فقال لهم ببساطة: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً»، لكنهم طعنوا في مصداقية النبي نفسه: «قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا»؟ ومع تظاهرهم بالإذعان تماطلوا في تنفيذ أمر الله: «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِي؟»؛ «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا؟»؛ «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا»؛ كان موسى في كل مرة ينتظر تحديدا جديدا من الوحي ويجيب عن تساؤلاتهم، وفي الختام: «قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ».
أي نعم، هكذا إلى آخر لحظة: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)…فالمشكلة ليست في وجود النص، فالأمر كان يتلخص في ذبح (بقرة) وفقط، لكن النفوس العليلة وهي تتفلسف وتناور، وتحاول الاجتهاد في ما لا يحتمل الاجتهاد، هو الذي يعطّل النص بدعوى الفهم (الجديد) أو (الاجتهاد) وهذا مسلك يَخرج عن طبيعة الإيمان الذي يقتضي التسليم، ويتنافى مع مواصفات المتقين التي ذكرت في صدر السورة، ولا يتفق حتى مع طريق (الكافرين)، إنه مسلك النفاق الذي اقتضى ثلاثة عشر آية، وأصحابه الذين يشعلون نارا قصد الاستنارة فيذهب الله نورها، فأحاطت بهم الظلمة وبقي لهب النار يحرق القلوب الفاسدة: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ» ( البقرة/17).
ولأجل جلاء حقيقة أمراض التدين المغشوش، كان ابراز هذه القصة ضروريا على امتداد الأزمان والأمكنة، وكشف العابثين بالنصوص، لأن خطرهم لا يقل عن مذهب المنكرين لها والجاحدين لحقيقتها.