فـــي ذكـــرى يـــوم العلــــم مواقف مجهولة في حياة الشيخ عبد الحميد بن باديس
أ / الأخضر رحموني/
بمناسبة إحياء ذكرى وفاة الشيخ المربي عبد الحميد بن باديس تستحضر الكثير من الأقلام في الندوات الفكرية والمهرجانات الثقافية وعلى المنابر الإعلامية مواقف الشيخ التربوية وجهوده التعليمية في نشر اللغة العربية والمحافظة على مبادئ الدين الإسلامي بتصحيح الأفكار ومحاربة الخرافات، والروح الوطنية التي غرسها في نفوس تلامذته وطلابه لتوعيتهم باليوم المنشود، ونضاله الفكري خارج حدود الوطن بالاهتمام بالقضايا المصيرية للأمة العربية والإنسانية قاطبة. ومن أجل الكشف عن بعض المواقف التي لا تزال مجهولة في حياته، نقف في ذكرى وفاته 81 مع بعضها، بهدف معرفة حقيقة شخصية هذا الرجل الذي كان يمثل أمة ماجدة، والكشف عن سر عظمته واحترامه من طرف الجماهير، فهو عبقري متعددة الجوانب، لربط جيل اليوم بأسلافه، للحفاظ على تراثهم، والافتخار بما صنعوا في أحلك الظروف لتحقيق الأهداف المشتركة. وإن إحياء هذه الذكرى ليس الغرض منه تمجيد الأشخاص والرفع من قيمتها الذاتية، بقدر ما هي وقفة ضرورية لاستلهام القيم النبيلة والمبادئ السامية من سلوكات هؤلاء الرجال العظماء في الحياة حتى تبقى نبراسا ينير الطريق للأجيال القادمة.
ومن هذه الجوانب التي لا يعرفها الكثير من الجزائريين خصال حميدة في حياته الخاصة، وبعض علاقاته وإنسانيته، وهي مستقاة من أفواه أناس عاشوا معه ولازموه طوال حياته وتتلمذوا عليه سجلت خلال الندوة التي أدارها وسجلها الأستاذ الصديق بوعاب لجريدة النصر في 21 أفريل 1981.
وبمثل هذه الجوانب المضيئة خلد اسم رائد الحركة الإصلاحية والوطنية في الذاكرة الجماعية، وبقي الشعب الجزائري بكل فئاته يحتفي كل سنة بأعماله منذ رحيله في 16 أفريل 1940.
يقول السيد عمار بن السقني الذي كان لا يفارق الشيخ ابن باديس، حتى اعتبر ظله الذي يمشي معه، أن الشيخ عبد الحميد كان من أشد الناس كرها لتقبل الحاجات المجانية، كان شديد الحرص على دفع مقابل كل ما يرغب في شرائه، وقد وبخ مرارا أعز أصدقائه عن مثل هذه التصرفات التي يراها سخيفة، ويحثهم على تجنبها في جميع المواقف، ومنهم ابن السقني نفسه الذي بقي يتذكر درسا لقنه استاذه لن ينساه أبدا رغم مرور الأعوام، يقول:
صنعت مرة حذاء للشيخ ابن باديس وناولته إياه، فسألني عن ثمنه، فقلت له: إنه هدية مني إليك. فغضب ووبخني عن هذا الموقف، ثم قال: يجب أن تعرف أن هذا الحذاء الذي صنعته بيديك ليس من حقك التصرف فيه أنت وحدك، فهو أيضا حق من حقوق عائلتك، وكل عضو من أسرتك يقتات من حرفتك.
ونفس الموقف ذكر مثله الأستاذ محمد الصالح الصديق في كتابه (الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس من أرائه و مواقفه) ص42:
حدثني السيد شريفي عمرو – صاحب المكتبة الجزائرية بالعاصمة – أن الشيخ ابن باديس خرج من مقصورته بجامع سيدي قموش بقسنطينة ذات يوم، وطلب من زواوي مولود أن يبحث عمن يشتري له نصف لتر من اللبن، وأعطاه آنية، فرآها فرصة لإكرام الشيخ، فذهب بنفسه الى شواء، واشترى له صحنا من اللحم المختار، وعاد الى الشيخ وهو يكاد يطير من شدة الفرح، ولما قدمه إليه استشاط الإمام غضبا، وقال له في لهجة شديدة صارمة: ألا تعلم أنني ابن مصطفى بن باديس ومن أسرة ميسورة، وأن أنواعا مختلفة من الطعام اللذيذ تعد كل يوم في بيتي لو أردت التمتع بالطعام، ولكن ضميري لا يسمح لي بذلك، وطلبتي يسبغون الخبز بالزيت وقد يأكله بعضهم بالماء.
وفي نفس المصدر جاء بالصفحة 44:
أن شخصا من سكان قسنطينة ومن المعجبين بالإمام سافر الى تونس سنة 1935، واشترى من هناك عمامة من الطراز الرفيع بهدف إهدائها للشيخ، وتركها عند السيد مولود الزواوي حتى يقدمها إليه، خاصة وأن الإمام غالبا ما يجلس في متجره، و لما سلمها إليه نظر فيها طويلا ثم قال له: بعها يا مولود، وابعث بثمنها الى حساب الطلبة. فاستغرب مولود وقال له: إنما أهدى إليك العمامة لتلبسها لا لتعطي ثمنها للطلبة، ولو أراد أن يعطي ثمنها للطلبة لبعثه الى حسابهم وهو يعرفه جيدا ،فالذي أهداها إليك يريد أن يراها على رأسك . فأعاد الشيخ كلمته في لهجة أقوى: قلت لك بعها و ابعث بثمنها الى حساب الطلبة، ثم أردف قائلا: مولود ،كم عدد الطلبة والشيوخ الذين يلبسون هذا النوع من القماش في الجامع الأخضر ..الثلث ..أو الربع ..أو الثلثان.
فقال مولود الزواوي: قد يكون الثلث .فرد عليه الشيخ في جد وصرامة: ثق جازما بأنني لا ألبسها وأضعها على رأسي حتى يلبسها الثلثان.
هذا جانب من أخلاق الإمام وموقف يعكس سلوكه وتربيته الإسلامية التي غرسها فيه والده منذ ولادته.
حدث آخر سجل فيه الشيخ ابن باديس انتصارا باهرا على حساب العدو الفرنسي وأعوانه. وهو كما يرويه رفقاء الشيخ، منهم أحمد الجموعي الذي كان مديرا لمدرسة التربية والتعليم – فرع باردو-، يدور حول مدرسة التربية والتعليم الواقعة بنهج الأربعين شريفا بقسنطينة والتي أسسها الإمام، وهي التي كانت عبارة عن دار كبيرة تابعة للأموال العامة (أي من عقارات الإدارة الفرنسية)، وأرادت هذه الأخيرة بيعها عن طريق المزاد العلني، فاتفق الشيخ ابن باديس مع مساعديه على شرائها واستغلالها من أجل نشر التربية والتعليم لأبناء الجزائر دون أن تعلم فرنسا بالخطة، وفي يوم موعد البيع تقدم الشيخ ابن باديس مع جملة من أصحابه المخلصين، وبدأت العملية وكانت المنافسة العلنية شديدة من طرف بعض الأشخاص الذين كانوا يرغبون في شراء هذه البناية لاستغلالها في الأمور التجارية والسكن وغيرها، غير أن ابن باديس كان من أشدهم تحمسا، وكان يضيف عن كل مبلغ يقدم في المزايدة، مع العلم انه كان وأصحابه لا يملكون ميزانية خاصة ولا حتى أموالا موضوعة خصيصا لهذا المشروع، ولكن ثقة ابن باديس بالله جعلته أكثر ما يكون شجاعة وإقداما وإرادة لتحقيق هذا الهدف العلمي السامي، وفعلا أراد الله أن تكون هذه البناية من نصيب الجماعة المصلحة بعد أن عجز الآخرون عن تقديم مبالغ أكثر. بعدها شرع الشيخ ابن باديس وأعوانه في جمع المال عن طريق تبرعات المحسنين، حيث تم جمعه في ليلة واحدة فقط والمقدر ب (5 آلاف فرنك)، وهو مبلغ ضخم في ذلك اليوم، مما أثار قلق الإدارة الفرنسية حتى كادت أن تصاب بانهيار عصبي، ولم يكن الدافع لذلك هو المبلغ الضخم الذي جمع، وإنما ما كان يخشاه العدو الفرنسي وقتها، حيث تيقن بحدسه البعيد مدى مؤازرة الشعب الجزائري لابن باديس ومدى حبه وإخلاصه له.
شقيق الإمام – السيد عبد الحق بن باديس – يقول: إن درجة وطنية ابن باديس بلغت حدا لا نهاية له ومن كثرة حبه لوطنه وإخلاصه للشعب الجزائري وحقده على الاستعما، كان يرفض كل ما هو فرنسي حتى اللباس والأكل، فقد كان لا يرتدي إلا اللباس المحلي ذو الصنع الجزائري، وفي منزله مع أفراد عائلته كانت له أواني مصنوعة من الفخار لتناول الطعام.
وبما أن الشيخ ابن باديس كان كثير التنقل عبر المدن الجزائرية في زياراته المستمرة لتقديم الخطب والدروس ومعرفة أحوال الناس، فقد اضطر الى الاشتراك في بطاقة السفر الخاصة بالقطار، والبطاقة كانت رسمية وتفرض مصلحة السكك الحديدية على صاحبها أن يوقع عليها باللغة الفرنسية، لكن الشيخ ابن باديس كان يوقع عليها دوما باللغة العربية، وهذا الموقف الشريف النبيل يحمل معاني كثيرة للمحافظة على المقومات الأساسية للشخصية الوطنية.
ومن أخلاق الشيخ ابن باديس مع تلاميذه، وعلاقتهم بهم وعطفه عليهم، يتفق الجميع ومنهم السيد ابن القشي خليل المدعو الزواوي – الذي كان يشرف على مطبعة الشهاب – على أن الشيخ الإمام كان شديد الحرص على تكوين الرجال بأسرع ما يكون، وكان يولي اعتناء كبيرا بطلبته خاصة المعوزين منهم، والذين يقبلون على دروسه من كل جهات القطر بعمالاته الثلاثة (قسنطينة والجزائر ووهران)، متحملين الصعاب المادية منها والاجتماعية، فكان لهم بمثابة الأب الروحي لكل طالب علم، فاعتنى بهم وقدم لهم المزيد من المساعدة، ومنها أنه أنشأ صندوق الطلبة الذي يمول من طرف المواطنين عن طريق التبرعات،فضلا عن الدور الإنساني الذي كان يقوم به أصحاب المطاعم والمخابز والمتمثل في تقديم الوجبات مجانا لبعض التلاميذ .فقد كانت كل عائلة من المتبرعين تتولى إطعام عدد معين من الطلبة بقدر طاقتها، وكانت المساعدات أيضا تصل من المدن والقرى الجزائرية، فمدينة بسكرة مثلا كانت ترسل أكياس التمر الى الجمعية لتوزيعها على الطلبة المحتاجين، حسب ما جاء في كتاب الدكتور أحمد الخطيب (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأثرها الإصلاحي في الجزائر) ص 137 ..
وفيما يتعلق بالمبيت فقد خص لهم الشيخ أمكنة في مسجد سيدي قموش، ومن يتعذر إقامتهم بالمسجد يستأجر لهم غرفا في الفنادق يدفع ثمنها من مال الصندوق. وعن معالجتهم صحيا فإن الطبيب الفرنسي – كاطوار – قام بدور مشهود حيث كان يفحص ويعالج التلاميذ المرضى ويقدم لهم الأدوية مجانا.
كما شجع الشيخ بعض أطباء المدينة على التبرع بزيارتهم والكشف عليهم ومعالجتهم بصورة منتظمة ومنهم رجل السياسة الحكيم محمد الصالح بن جلول وقد بلغ بالشيخ الإمام من الكرم و الإحسان والعطف، درجة أخذهم في المناسبات الدينية والأعياد الى منزله العائلي حتى لا يشعروا بالغربة والوحدة، فضلا عن الخدمات الجليلة والإنسانية التي كان يقدمها لهم عن رضا وطواعية.
فقد حصل ذات يوم من أيام الشتاء عند الظهر أن فقد أحد التلاميذ برنوسه بالمسجد، ولما علم الشيخ الإمام بذلك، قام وناوله برنوسه الخاص .هكذا كان الشيخ المربي ابن باديس يعامل تلامذته بحنان وشفقة، وكن ذلك لا يؤثر في تأدية رسالته التربوية الخالدة كعالم جليل، فهو أثناء إلقاء الدروس لا يعرف المجاملة، ولا يتردد في قول كلمة الحق وتقديم النصائح الجريئة حتى وإن كانت تصدم في بعض المرات الطلبة، منها أنه كان ينصح بعض التلاميذ ممن لا يلمس فيهم نفوسهم الاستعداد والرغبة في التزود بالعلم، بالذهاب الى قطاع الفلاحة وخدمة الأرض، أو مساعدة أوليائهم في حرفهم من أجل كسب لقمة العيش.
كما كان يشجع النبهاء منهم على مواصلة الدراسة بجامع الزيتونة المعمور، والانفتاح على الثقافات المختلفة وقد روى الشيخ احمد حماني انه استمع إليه وهو يتحدث عن ترجمة (الشريف التلمساني) ويذكر الفنون التي كان مشاركا فيها حتى ذكر الموسيقى فقال لطلبته: انظروا الى ما كان عليه أسلافنا من المشاركة في سائر الفنون، والتمكن من أكثر العلوم، التي لو التفتنا إليها اليوم لحسبونا من المجانين، فمن غرته نفسه وحسب نفسه عالما عظيما، فليتناول أحد كتب التراجم وليقرأ سيرة علماء سلفنا، حتى يعير نفسه ويعرف قدرها.