الوالدان والأولاد بين الدراســـــة والديـــن

عبد العزيز كحيل/
قضية الأولويات والموازنة بين الواجبات تطرح نفسها بشكل حاد في حياتنا الاجتماعية، بحيث لم يعد هناك سلّم للأهم والمهم والأقل أهمية، ولا توازن في تناول شؤون الحياة، فحدث خلل عظيم على مستوى التصوّر والممارسة والمتابعة، مما أثّر سلبا على الحياة التي لا تقبل العبث ولا ترضى بالتبعيض، ولعلّ أوضح مثال على هذا هو حال الأولاد مع الدراسة التي يتابعوها وبين علاقتهم بالدين، وموقف الأولياء من هذا وذاك.
فقد أصبحت هناك ظاهرة مجتمعية راسخة هي أن الأولياء في معركة متواصلة شاقة من أجل دراسة أبنائهم من الابتدائي إلى الثانوي، يسكنهم هاجس الرسوب في الامتحانات والرغبة في بلوغ أبنائهم المراتب المتقدمة في التمدرس، وهذا انشغال مشروع (رغم أن الهمّ منصب في الغالب الأعمّ على النجاح ونيل الشهادة بأي شكل وبأي ثمن، وليس طلب العلم ولا الرسوخ فيه)، لكن بدل المتابعة الميدانية لتمدرس أبنائهم والدعم المنزلي لهم عمدوا إلى الدراسة الموازية في القاراجات بأسعار باهضة، حتى أصبح هذا هو الأصل والمدرسة هي الاستثناء، ورسخت هذه الظاهرة التي لا أعلم بوجودها في دولة أخرى ألا وهي الدروس الخصوصية لجميع الأطوار، حتى للسنة الأولى ابتدائي وفي جميع المواد !!! ومن شدة الحرص على نجاح الأبناء والخوف من النتائج الرديئة يمرّ الأولياء بأيام عصيبة كلما اقتربت الفروض والامتحانات الدورية فضلا عن الاختبارات النهائية كالباكلوريا وشهادة التعليم المتوسط وكذلك الابتدائي، وعندما تخرج النتائج يغضبون من علامات أبنائهم الضعيفة ويحزنون ويتهمون الأساتذة والإدارة والمنظومة التربوية بالتقصير والضعف، فإذا كانت المعدلات جيدة فرحوا وقاموا بتكريم أبنائهم… وهذا مربط الفرس وأصل المشكلة التي أثيرها في هذا السياق …من جهة اهتمام مفرط – ليس بتمدرس الأولاد ولكن بنجاحهم بأي طريقة وبعد إنفاق أموال طائلة على دروس الدعم – ومن جهة ثانية معظم الأولياء لا يعيرون اهتماما لتديّن أبنائهم ولا أخلاقهم، لا يحرصون على صلاتهم، لا ينزعجون من انحرافهم الخلقي ولا صحبتهم السيئة، لا يحثونهم على حفظ القرآن وتلاوته، ولا على حفظ الأحاديث والإطلاع على السيرة النبوية، ولا على حجاب البنت وعفافها… كل هذا في أعينهم أمور ثانوية، أو- على الأقل – مؤجلة «حتى يكبر الفتيان والفتيات»!!!
أرأيتم اختلال سلم الأولويات والموازنات والتكامل في تنشئة الأولاد؟ هكذا أصبح أكثر المسلمين دنيويين تماما، حتى وهم يؤمنون بالآخرة ويصلون ويصومون ويحجون ويقرؤون القرآن …هنا يكمن الخطأ: إنها معادلة الحرص على الدراسة وتضييع الدين، وهذا ما يفسر انتشار الإلحاد بين الشباب وتراجع التديّن واتساع دائرة الانحراف الفكري والسلوكي لدى قطاعات واسعة من الأحداث، مما يؤشر على انحطاط عام في عالم القيم والأخلاق، ويرهن مستقبل المجتمع المسلم، بل يُسلمه للشك والتيه والضلال، مع تربص شياطين الإنس والجنّ ونشاطهم الذي لا ينقطع لإفساد الدين والأخلاق، خاصة في ظروف استقالة المدرسة والإعلام من مهمة التربية، بل وانتقال هذه المؤسسات إلى أدوات لمحاربة الدين والأخلاق بطريقة منهجية تنذر بالأسوأ.
متى ينتبه الأولياء إلى أن دروس الدعم لا تعوّض التقصير في حق الأبناء، بل هي حيلة لتزكية النفس والتغطية عن التغافل عن المعنى الحقيقي للتربية؟ أجل، الشهادات مطلوبة لكن أولها وأفضلها وأحسنها وأوكدها هي «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله»…هل يعرفها أبناؤكم؟ هل علمتموها لهم؟ يبكي إذا رسب ولده في امتحان الباك ولا يبكي وهو يرسب في امتحان الآخرة؟ …يريد ابنه متعلما ولو كان ملحدا أو علمانيا منحرفا؟ أين عقد الإيمان ومسؤولية الآباء والأمهات أمام الله؟ لا يوجد أي تعارض بين متابعة تمدرس الأبناء وبين تديّهم، لكن العيب في الاهتمام بالأول والتغاضي عن الثاني والتفريط فيه واستصغاره، فهل مضى الزمن الذي يعلّم فيه الوالدان أبناءهما الصلاة وهم صغار ويحرصون على اصطحابهم إلى المساجد، ويدخلونهم كتاتيب حفظ القرآن ويفتخرون بذلك؟ طغت النزعة المادية والدنيوية إلى هذه الدرجة؟ لو اعتنى الأولياء بتديّن الأطفال والشباب ما انتشرت ظاهرة المخدرات والمهلوسات والجرائم المختلفة إلى هذا الحد المؤسف الذي نصبح عليه ونمسي، وها نحن نلاحظ بكل أسف أن المساجد لم يعد يرتادها في كثير من الأحيان سوى كبار السن، في حين الشارع – بمخاطره وانحراف وأغراضه السيئة – هو الذي يتلقف الأحداث والشباب من الجنسين.
على الأولياء أن يحرصوا على صلاة أولادهم كما يحرصون على دراستهم، ليجعلوهم من أهل القرآن والسنة، ويعوّدوا البنات على الحجاب قبل بلوغهن، ويجعلوا بيوتهم بيوتا مسلمة… بشهادة أو بغير شهادة سيعيش أبناؤكم حياتهم، لكن بغير دين لن يدخلوا الجنة، وأنتم المسؤولون.