حامـــل مشعــل النـــور فــي الجزائـــر
أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
في مثل هذا الشهر، منذ واحد وثمانين سنة أفل نجم حامل مشعل النور، وزارع «مشاتل» أطيب البذور، وواضع أسس قيم الأمل والسرور في جزائر الظُّلمَة، والظلم الاستعماري المجلل بسواد الليل والديجور.
كان ذلك هو الإمام عبد الحميد بن باديس الذي فتح عينيه على وطنه المكبل بالأغلال، وصمّ أذنيه، قانون غطرسة الإذلال النابع من جحافل الاحتلال.
ولد ابن باديس، فكان مولده إشراقا إلهيا على الجزائر، التي كانت، من حيث الفكر، والذكر بمثابة الصحراء أو البيداء القاحلة، التي خلت –وهي الأرض الخصيبة – من الأزهار المنعشة الحبيبة، ومن النجوم المضيئة، الهادية القريبة.
لقد حزّ في قلب ابن باديس، والذين معه، -على قلة في العدد- أن يتردى الوطن، في هذا الوضع السحيق، بسبب هيمنة المستعمر، الذي حول الأرض يبابا، والعقول خرابا، والأماني سرابا، فأخضعوا ذلك الواقع وتلك المعاناة، إلى تأمل دقيق، وإلى تشخيص عميق، بحثا عن العلاج الوثيق..
وإذا علمنا أن المحنة، عندما يبتلى بها، ينتج عنها المعنى الحقيقي، وهو إيقاظ النفس، وتعميق الوعي، ومضاعفة السعي؛ وذلك ما استخلصه الإمام عبد الحميد بن باديس من المحنة الجزائرية، فصاغ من المحنة مشعلا للنور، وزرع مشتلة من أطيب البذور، فاتخذ العلم نبراسا، والإيمان أساسا، هدفه من كل ذلك أن يجعل كل ما في المكان، وما في الإنسان يحيا، وينتعش بالحب، والإيمان، والأمل، وقد نجح في ذلك.
إن العلم الذي آمنت به جمعية العلماء، بقيادة ابن باديس، وجعلته أساس منهجها الإصلاحي هو العلم الشمولي، الملتزم، بقضايا الوطن، المستند إلى الدين القويم، والتدين السليم، فكان هذا العلم هو ينبوع الضوء، الذي بدّد جحافل الظلمات ظلمات الجهل، والتخلف، والجمود، والخنوع، والخضوع، فأيقظ المواطن من غفلته، وسلحه بالصلابة، بمقدار الحق الوطني الثابت فكانت الوثبة الإيمانية، والنهضة الإصلاحية التي أيقظت المواطن من سباته، وغيرت كل معالم حياته، وبعثته في رحلة جديدة بحثا عن الخلاص، بكل الرسائل، بما في ذلك المدفع، والرصاص.
واليوم وقد انقضت ثمانية عقود على وفاة رائد الثورة الجزائرية، وواضع لبناتها الأساسية، ألا يحق لنا، أن نخضع الواقع الجزائري المعيش، لتأمل جديد، في ضوء إرث ابن باديس التليد ولنتساءل: ماذا فعلنا بإرث ابن باديس العتيد؟
جميل جدا أن نخصص لإبن باديس، يوما في السنة سميناه يوم العلم، وجميل أيضا أن نخصص لهذا العالم، الندوات، والمحاضرات والمساجلات، ولكن الأجمل من كل ذلك هو أن ندخل إرث ابن باديس، في حياتنا السياسية والتشريعية، والتربوية، والأخلاقية، فتغدو منظومتنا، متكاملة، ومتوازنة بامتياز؛ إن المتأمل للواقع الجزائري اليوم، بجميع مكوناته يلحظ سحبا دكناء، وأفكارا هوجاء، واتباعية عمياء، وكلها توشك، إن لم ينزل عليها منهج العلماء، أن تتحول إلى كارثة هوجاء.
وإذن، ونحن نعيش السبحات الرمضانية، والنفحات الإيمانية، وتظلنا، بالرغم من ذلك، هواجس الخوف من الوباء، وتطوقنا موجة الغلاء، ويكاد يستبد بنا اليأس بدل الرجاء، فإن الخلاص يكمن في الاحتكام إلى قانون السماء، وإحياء منهج العلماء، في إعادة زرع الصفاء، والإخاء والوفاء.
إننا نتوجه بخالص النداء، إلى جماهيرنا العصماء، وإلى فلذات أكبادنا من الشبان الأصلاء، أن يصلوا عهدهم بعهد الإمام ابن باديس، ونقول لهم: لا تنقطعوا عن عالمه العظيم، واجعلوه مثلكم الأعلى، وتعالوا إلى إرثه العظيم، لنتحمل جميعا مسؤولية، حمله بأمانة، وعهد قويم.
فإلى جمعية العلماء، التي آمنت بالإصلاح الكامل والشامل شرعة ومنهجا، أن أردنا للجزائر، الحياة، والإحياء والخلود ولتحقيق ذلك، لا بد من استحضار مُثل ابن باديس، ومبادئ قيمه في التأسيس، وأهم تلك المبادئ والقيم، إنكار الذات، وبذل التضحيات، وزرع المحبة، والأخوة، وكل الأعمال الصالحات.
لقد كان ابن باديس بمثابة الواحد الذي يبدأ منه العدد، فلم لا نكون نحن العدد الصالح الذي يؤكد صحة العدد، ويقدم له السند ويبعث في أنفاسه طول الأمد.
فهل يصح في الأذهان، أن نتحدث عن ابن باديس وعن العلم والعلماء، وإرث ابن باديس المادي يعاني الضياع؟
ويكفي أن نحيل النظر في مقر جمعية العلماء الرئيسي في الجزائر، لنرى العجب العُجاب من الإهمال، والشح على الجمعية، بالمقر اللائق وبالمال.
ونمد الخطى إلى معقل ابن باديس بقسنطينة لنرى إلى الجامع الأخضر الذي انطلقت منه دعوته، وقد ران عليه خيط العنكبوت، وتحولت حيطان مبناه، إلى ما يشبه التابوت، وقبل ذلك، عن مقر جمعية العلماء الأول في حي القصبة بنهج «بومبي» فهو اليوم ضحية سوء استغلال بسبب الإهمال، وسوء الأعمال.
ولا ننسى معهد عبد الحميد بن باديس الذي حول عن مقصده وهدفه، وكذلك الحال بالنسبة لدار الطلبة بقسنطينة، ودار الحديث بتلمسان إلى غير ذلك من المعالم الباديسية التي انتزعت من وُرّاثها الحقيقيين، وسلمت إلى قطاعات مختلفة.
فيا قادة الحكم في بلادنا! إننا –ونحن نحيي ذكرى ابن باديس، ذكرى العلم والعلماء، نرفع إليكم صوتنا، بأن خير ما تقدمونه من وفاء، لابن باديس، ولجمعية العلماء وهي خير جمعية أخرجت للناس، أن تعيدوا الإرث العلمائي الباديسي إلى أهله إلى جمعية العلماء، وأن تبوؤوا، هذه الجمعية المكانة اللائقة بها، بدءا باستعادة أملاكها، والاستفادة من ميزانية بلادها.
كما نتوجه إلى المواطنين والمواطنات: أن تعالوا إلى جمعية العلماء بالإنضمام إليها، ومدها بالعون والمساعدة، وتشجيعها على حمل الأمانة، وتقاسم الأدوار المنوطة بها.
لقد كانت نصيحة ابن باديس قبل موته:
فإذا أهلكت فصيحتي تحيا الجزائر والعرب، فتعالوا جميعا – باسم الوفاء، لنحقق الرجاء، ونعلي البناء.
نبنى كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل «فوق» ما فعلوا.
فهل تسمعون النداء؟ وهل تحققون الرجاء؟