ضيــــق البيـــت الغــربــي (الفرنسي) بغيــر خُدامــــه
أ. د. مسعود صحراوي/
إذا «ضاق البيت الغربي» (والمصطلح لـ«حسن أوريد» ) -«خصوصا بيت العنصرية الفرنسية وبعض الدول الغربية»…إذا ضاق ببعض أبنائه العلماء المفكرين والمثقفين المنصفين للإسلام وعالَم الشرق- فصرحوا بأنهم لم يعودوا مُلَّاكا للبيت ولا لأي جزء منه، بل لم يعودوا حتى من مستأجِريه المحترمين المحفوظة حقوقهم المرعية ذمتهم، بل حدث أن أوذوا واضطُهدوا بطريقة ما، فمنهم من غادره طوعا أو كرها، ومنهم من بقي فيه على مضض يعيش على الهامش حيا أشبه بالأموات «إنما الميت ميت الأحياء»، والقتلُ المعنوي قد يكون أقسى من القتل المادي الجسدي…
ومن هؤلاء الذين ضاق بهم بيت «الإنسانية والحقوق المزعومة» الفيلسوف الفرنسي الماركسي سابقا البروفيسور روجيه غارودي الذي حوصر حصارا شديدا واضطُهد لمجرد إدلائه ببعض الآراء الفكرية والسياسية التي لم تعجب حراس البيت «اليهودي-المسيحي» الحقيقيين، ومن مواقفه المعلنة أن تقديرات أعداد الذين قتلوا في «الهولوكست» (المحرقة) التي أشعلتها النازية في حق اليهود غير حقيقية؛ فهي في رأيه أعدادٌ مبالغٌ فيها كثيرا ولم تنطل عليه الدعاية الصهيونية… ومن أسباب اعتناقه للإسلام أن الحضارة الغربية بنيت على «فهم خاطئ للإنسان»، وأنه طوالَ حياته كان يبحث عن معنى معين لم يجده، حسبما يرى، إلا في الإسلام…( وصرح قائلا: «إن اعتناقي الإسلام لم يكن شيئا من قبيل التجربة، ولكنه كان شيئا كالإنجازات الكبرى في حياة الإنسان… وعندما شرح الله صدري للإسلام تكونت لدي قناعة بأن الإسلام ليس مجرد دين يختلف عن بقية الأديان فحسب بل إنه دين الله، أعني بذلك أن الإسلام هو الدين الحق منذ خلق الله آدم… الإنسان الأول» …فكانت تلك أسبابا كافية في نظر القوم لاضطهاده والتنكيل به معنويا في الإعلام… ومنهم موريس بوكاي Maurice Bucaille الطبيب الفرنسي الذي أسلم عن تفكر وعلم ودراسة معمقة للقرآن الكريم… ومنهم الصحفيُّ النمساوي من أصل يهودي الذي نشأ نشأة يهودية والذي كان يسمّى «ليوبولد فايس»، فلما هداه الله وأسلم صار «محمد أسد»، فصرح في كتابه «الطريق إلى مكة» بأنه لم يعد من مُلاّك هذا البيت الأوروبي بل صار غريبا فيه، فغادره -طوعا أو كرها- وعاش ما بقي من حياته بين السعودية وباكستان مسلما، ومات مسلما… ومنهم نُوعَم تشومسكي رغم أصله اليهودي، ولم يُسْلم ولكنه فَضحَ الإمبريالية الأمريكية… ومنهم…ومنهم…
فإذا ضاق هذا البيت بأبنائه الذين من صلبه فكيف يطمع قومٌ من بني جلدتنا أن يؤويهم البيت الفرنسي المتعصّب ويعطيهم ما يطلبون، إلا في حالة واحدة: أن ينسلخوا من جلدهم وينسوا ذاكرتهم وأن يتحيزوا للغرب معرفيا فيصيروا تلاميذ أوفياء مسوّقين لأفكار أرنست رينان ولويس ماسينيون ومكسيم رودنسون ومن شاكلهم… يخدمون البيت كما خدمه أمثال عمار نارون سياسيا (في الثلاثينيات والأربعينيات)، وأن ينتقدوا كل شيء في الإسلام ابتداء من القرآن وأسطورية بنياته ! وانتهاء بالزي الإسلامي… كما فعل محمد أركون الذي انبهر بفرنسا حتى فقد ذاكرته وهويته الجزائرية فدعا إلى تبني العلمانية الفرنسية وأثار زوبعة من السفسطة العلمية (أعني تلك التي تنطلق من مفاهيم علمية صحيحة لكن توظفها في بناء نتائج غير صحيحة ودلالات فلسفية مهتزة)… وبأن يكونوا أكثر تفرنسا من الفرنسيين أنفسهم وأن يكونوا بلا ذاكرة وبلا هوية… يقبلون منهم أن يكونوا مثقفين وظيفيين طيّعين وأن يكون لديهم تحيّز معرفي واضح لفرنسا وقيمها العَلَمانية إزاء مسائل الهوية والدين واللغة… وأن تكون لديهم القابلية للاستعمار والاستعمال والتدمير الفكري المتعمَّد أو غير المتعمَّد… فهؤلاء مرضيٌّ عنهم ويعيشون في البيت الفرنسي مكرمين ولو إلى حين ويبرزونهم في الإعلام الرسمي ذي المتابعات الواسعة… أما أن يكونوا ممن عاشوا في الغرب ودرسوا لغته وأتقنوا علومه ومناهجه الحديثة ثم حافظوا على شخصيتهم من الذوبان وبيَّنوا علل الغرب وأخطاء الحداثة المطلقة وفضحوا تطرف العالَمنية والليبرالية والحريات غير المنضبطة بأخلاق الفطرة وتحيّز المؤسسات الغربية إلى شعوب المركز…أما إذا بشروا باقتراب نهاية المشروع الصهيوني… وكانوا مخلصين في نصح أمتهم من أمثال محمد إقبال ومالك بن نبي وحموده بن الساعي وإسماعيل راجي الفاروقي وعلي عزت بيغوفيتش ومحمد عابد الجابري وإدوارد سعيد وعبد الوهاب المسيري وأبي يعرب المرزوقي وطه عبد الرحمن وغيرهم… فالتجاهل والتعتيم -أو الموت البطيء- هو جزاؤهم وعقابهم…
ألا فليحذر الطيبون أن ينخدعوا بالشعارات التي لا تطبق إلا في نطاق محدود ولهدف مرسوم.