نظرات مـــالك بن نبي في تطـــــوّر علـــم الــــذَّرَّة
أد. مولود عويمر/
في المقال السابق الذي خصصته للبحاثة الجزائري اسماعيل العربي تحدثت عن مجلته “إفريقيا الشمالية” التي أصدرها بين عامي 1948 و1949. وكان من المساهمين فيها الأستاذ مالك بن نبي الذي نشر مقاليْن: “حدث القنبلة الذَّرّية” (ع 1)، و “إلى الضمير المسيحي” (ع 4). وإذا كان موضوع المقال الثاني متداولا في كتابات مالك بن نبي فإن موضوع المقال الأول يبدو لي مدروسا عرضيا في أعماله، ويحتاج إلى تقديمه للقُراء وعرض أفكاره ومناقشتها.
الاهتمام بروح العلم أكثر من العلم نفسه
تخصّص مالك بن نبي خلال دراساته العليا في فرنسا في مجال علم الكهرباء وافتتن أيضا بالرياضيات، وقد قال في هذا الشأن: «كانت مادة الرياضيات تمارس عليّ نوعا من السحر الأخاذ الذي يستبد بي كاملا». وانتسب أيضا إلى المعهد الوطني للفنون والمهن حيث درس الكيمياء. كما قرأ كثيرا من الكتب في الطب وعلم الفلك والفيزياء….الخ. ونجد آثارها من أعلام ونظريات ومؤلفات حاضرة في أغلب مقالاته وكتبه ومحاضراته من أمثال ابن سينا وكوبيرنيك ونيوتن وبافلوف…الخ.
وعلى رغم تكوينه العلمي كما ذكرت سابقا واكتسابه رصيدا رصينا في المعرفة العلمية فإنه لا يكتب إلا في الموضوعات الفلسفية والتاريخية والسياسية، لذلك تساءلت مرارا في قرارة نفسي: هل كتب بن نبي في القضايا العلمية البحتة بوصفه مهندسا ودارسا للعلوم الطبيعية والرياضية، أم أنه اكتفى فقط بالاستعانة بمنهاجها لتحليل القضايا الاجتماعية والحضارية؟
صحيح أنه كان يدرس العلوم وتخرج من معهد المهندسين ولكنه كان متأثرا أكثر بالجانب الآخر وهو “روح العلم أكثر من العلم نفسه”. ولعل هذا الكلام يجيب عن بعض تساؤلنا السابق، كما يبرز مقاله التالي قدرته على تبسيط قضية علمية ودراستها بجاذبية أخاذة.
“حدث القنبلة الذرية”
قال مالك بن نبي في مقاله المنشور في العدد الأول من “مجلة إفريقيا الشمالية” الصادر في فبراير 1948:«لم يكن يوم (6) أغسطس سنة 1945 في نظر أكثر من شخص واحد حادثا مثيرا افتتح به العصر الذري بتدمير هيروشيما فحسب، بل كان كذلك حادثا حاسما لعهد جديد في تاريخ العلم. وقد اقترب هذا العهد من نهايته في نظر أكثر من شخص واحد في ذلك اليوم المشهود الذي دقت فيه الذّرّة، وهي الحد الأخير للمادة، وحطمت تحطيما.
وقد كان لهذا الموقف سبب مزدوج في الفكرة التي رسخت منذ عهد ديكارت عن المادة، وفي نظرية لافوازييه التي تعبر هذه المادة مؤلفة من أجزاء لا تقبل التقسيم “الذرات”. وينبغي أن لا يتغيّر هذا الموقف حتى بعد ما أظهرته الأبحاث التي قام بها بلانك وروتفورد وبوهر من التعقيد الداخلي في المادة وقد بقيت معرفة الذّرّة بالرغم من كل شيء هي الحد الذي كان مقررا أن ينتهي إليه العلم.
وحتى بهذا الاعتبار فإن العلم بعيد من أنه يكون قد قال كلمته النهائية لأن القنبلة الذرية لا تستغل سوى “طاقة الإلتحام” في النواة بينما تكمن في هذه النواة نفسها طاقة معتبرة تتمثل في تحويل جزئيات النواة نفسها إلى طاقة “الطاقة المادية”.
ومشكلة هذا التحويل – تحويل المادة إلى طاقة- هي الآن قيد البحث. وتبذل المحاولات لحل هذه المشكلة بالاستفادة من معرفة ميزو وهو الجزيء الأخير في تقسيمات الذرة الذي كشفت عنه الاشعاعات الكونية، ومع ذلك، فحتى على فرض الوصول إلى هذا الحل، أي تحويل المادة كلها إلى طاقة، عن طريقة دورة الميزو السريعة، فإنه لا محل للتفكير بأن هذا الفعل من العلم قد أشرف على خاتمته.
والواقع أن هناك عددا من الأفكار التي لا تزال يحيط بها الغموض، والتي يحتم مجرد محاولة القاء الضوء عليها الحصول على معلومات جديدة عن الطبيعة الداخلية للأشياء ونظريات جديدة كذلك. ويجب أن لا ننسى أن المعلومات والنتائج التي أسفر البحث عنها في علم الميكانيكية التمويجية لا يمكن التعبير عنها في الحالة الراهنة للعلم بلغة عادية.
ومعنى هذا أن اللغة الاصطلاحية الدقيقة قد أصبحت تحت مستوى الحقائق العلمية، غير أن المسألة ليست بكل بساطة مسألة استحالة التعبير، بل هي استحالة أعمق من ذلك ناتجة عن الادراك غير الكامل لبعض الأفكار المحبوسة في نظام المادة-الزمان- المكان الذي قد يكون ناقصا أو أسيء تعريف بعض عوامله.
ويبدو أن هذه مثلا هي الحالة في عامل المكان من حيث تعريفه في تعريفه الهندسي الذي تتممه نظرية النسبية التي تؤدي إلى تعريف المساحة الرابعة منه. وحتى بعد تتميمه على هذا الوجه فإن المكان لا يزال فكرة هندسية ولو أنه يبدو أنه يساهم كمسرح لبعض الظواهر الطبيعية مثل التولد الكهربائي الذي يعزى إلى تغيير صورة المكان. ويبدو أن هذه الفقرة تشتمل على نظرية فيزيقية للمكان قد تؤدي يوما ما إلى انقلاب في العلم وفي حياة الناس معا.
وإذا جاء ذلك اليوم، فسيتلو فصل الفيزيقا المادية الذي سيختتم باستغلال الطاقة المادية فصل جديد، وهو فصل الفيزيقا الكونية الذي قد يخفي الاكتشافات النهائية في الطاقة. وعند ذلك تتزحزح حدود العلم، وسوف لا يعتبر الناس القنبلة الذرية إلا حادثا عاديا كغيره من الأحداث.
وإذا جاء ذلك اليوم فسيتبع طور استغلال جميع أشكال الطاقة طور خلق الطاقة عند ذلك سيعترف الناس بفضل بعض الأسماء التي وإن كانت جهود أصحابها في القرون الماضية قد اتجهت لوضع نظام في الماوراء الطبيعة إلا أنهم مع ذلك كانوا أول من فكّر في “الذّرّة –المكان” مثل أحد رجال علم الكلام المسلمين، الأشعري.
إن تاريخ العلم يعيد نفسه وقد انتقم أصحاب الكمياء لأنفسهم بتفتيت الذّرّة الذي يذكر عرضيا بحجر الفلاسفة القديم». انتهى.
ولابد أن أشير هنا إلى أن مالك بن نبي أضاف أشياء أخرى إلى هذا المقال الذي سلمني نسخة منه الصديق الأستاذ عبد القادر بومعزة. وقد نشر بن نبي مقاله المزيّد والمنقح فيما بعد في جريدة “الجمهورية الجزائرية” الصادرة في 25 فبراير 1949.
التراكم العلمي في بحوث الذّرّة:
المقال فيه سرد ممتع لتطوّر الاكتشافات الحاصلة في علمي الكيمياء والفيزياء وربطها بالتفكير الفلسفي في ماهية المادة ومصير العلم ومستقبل الإنسان، لكن هل بدأت هذه الاختراعات والاكتشافات في القرن العشرين أم أنها كانت حصيلة جهود علماء سابقين في القرون الماضية؟
إن العلم يتطوّر بفضل التراكم المعرفي الذي تنتجه العبقريات الإنسانية عبر العصور، وأما احتكار العلم الحديث في العقل الغربي فقط فهذا ما يرفضه المنطق السليم ويدحضه تاريخ العلوم.
لا ينسى مالك بن نبي أبدا أن يربط كل هذه الجهود بأعمال سابقة ساهم فيها أيضا العلماء المسلمون في هذه الحقول المعرفية وأبدعوا فيها مما شكّل تراكما معرفيا عالميا وإنسانيا مهّد لكل خطوة علمية قادمة خطوات أخرى في مسيرة تطوّر البحث العلمي والتقدم المادي للإنسانية.
السلم العالمي صار مهددا!
يختلف مالك بني في هذا المقال -على الأقل- عن العلماء والمفكرين الذين انخرطوا آنذاك في الحراك الدولي للدفاع عن السلم العالمي أمام مخاطر الحروب المدمرة القادمة وذلك بعقد مؤتمرات ونشر العرائض من أجل توعية الرأي العام العالمي حول مخاطر انتشار الأسلحة النووية.
وقد ساهم مثلا مفكرون جزائريون في هذه الموجة من أمثال محمد تازروت وأحمد رضا حوحو الذي شارك في المؤتمر الدولي الأول للسلام الذي انعقد في باريس في أفريل 1949 برئاسة العالم الفيزيائي الفرنسي الشهير فريدريك جوليوت، وبحضور كوكبة من مشاهير الأدب والفنون والعلوم أمثال لويس آراغون، بيكاسو، ألكسندر فادييف…الخ.
لقد كان بن نبي مشغولا قبل كل شيء بتحليل الحدث العالمي المهيمن وهو تداعيات ضرب الولايات المتحدة الأمريكية اليابان مرتين بقنبلة ذرية لإرغامها على الاستسلام في الحرب العالمية الثانية. وأما موضوع السلام العالمي فإنه سيعالجه في كتابات أخرى مثل كتابه “فكرة الأفرو-آسيوية”، ويدعو إلى تكتل آخر سماه محور طنجة -جاكارتا للحفاظ على التوازن العالمي.
وقد كان هذا الحدث الكبير بداية لمرحلة التحوّل في تاريخ البشرية التي أصبحت تتجه نحو عالم جديد تسيّره الدول الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي) ولا حجة فيه للضعفاء.
غير أن هذا التنافس العلمي في مجال الذَّرّة سيفتح آفاقا جديدة في المجالات الأخرى ويساهم في ظهور اختراعات واكتشافات لا حصر لها تساعد على تحسين ظروف عيش الانسان في القرن العشرين ولو على حساب حريته أحيانا بخاصة الشعوب التي كانت تعيش في دول المعسكر الشرقي.
ويبقى أن أقول أن مقال بن نبي الذي ترجمه الأستاذ إسماعيل العربي من اللغة الفرنسية إلى العربية كان بموضوعه العلمي ولغته الأدبية الجميلة يذكرني بالمقالات العلمية العذبة التي كنت أقرأها في عز التحصيل المدرسي للدكتور أحمد زكي في مجلة “العربي”، وللدكتور عبد المحسن صالح في مجلة “الدوحة”.
إننا في أمس الحاجة اليوم إلى تعميم الثقافة العلمية بين الناس من خلال الفضاءات المتاحة والوسائل الكثيرة كالمدرسة والجامعة والجرائد والمجلات والقنوات الاذاعية والتلفزيونية والنوادي ووسائط الشبكات الاجتماعية من أجل نشر قيم العصر في مجتمعنا وترسيخ أسس التقدم فيه.