الأستـــــاذ فـــي علــــوم “الــريــاضيـــــات” البــروفـيــســــور “محمـــد سعيــــد مــــولاي ” للبصـــائـــر:
“الإعجاز العلمي في القرآن والسنة يقوم على ضوابط محددة في عدة مجالات كالطب وعلم الفلك”
“الإعجاز العددي بحاجة إلى ضوابط علمية ثابتة لحفظه من الدجالين” «ساهمنا بعد الاستقـــــلال في تعريب علــم الرياضيات على المستوى الجامعي» |
حاوراته: فاطمة طاهي/
تطرق الأستاذ الدكتور محمد سعيد مولاي، أستاذ الرياضيات بجامعة العلوم والتكنولوجيا بباب الزوار، في حوار له مع جريدة البصائر، للحديث عن أهمية العلوم الطبيعية في موسوعة العلوم الدينية، ومنها دور الإعجاز العلمي في نشر الدعوة الإسلامية شريطة إحكام الضوابط الشرعية والعلمية، خاصة في مجال الإعجاز العددي نظرا إلى بعض التصريحات المشبوهة التي تقدم بها أصحابها في صورة الإعجاز العلمي وهي تفتقد في الواقع إلى الضوابط الشرعية والمناهج العلمية. وأضاف بأنّ الشبهات والمغالطات التي اُلصِقت من بعض المتفيقهين بالعلاقة الوطيدة بين العلوم الدينية والعلوم الطبيعية والكونية، لا ينبغي أن تكون حجة لوضع الحواجز والموانع بين هذه العلوم كلها وإنكار أمر الإعجاز، خصوصا في زمننا هذا الذي تتوسع فيه المعارف بسرعة فائقة مع اكتشاف الترابط المحكم بينها والحاجة الماسة إلى تعدد الاختصاصات لفهم آيات الله تعالى في الآفاق والأنفس. وفي ذلك أمثلة عديدة، فعلى سبيل المثال آية الأزواج القائمة على قوله تعالى: “ومن كل شيئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون” (الذاريات 49)، إذ أصبح اليوم تكاثف المساهمات في بيان أبعاد تلك الآية الشاسعة ليس منحصرا في مجمل التفاسير لكتاب الله عز وجل فحسب ولكن تعدى ذلك إلى تفاسير علمية متعددة قائمة على دراسات متخصصة في مجال علوم الفيزياء والرياضيات والإعلام الآلي وما سوى ذلك من العلوم الكونية، وعلى بحوث منشورة في مجلات علمية محكّمة ومعروضة في ملتقيات دولية وصادرة من جامعات مرموقة كجامعة ليفربول البريطانية أو جامعة ستانفورد الأمريكية في مفهوم الزوجية، وهو مفهوم لطالما تغنت به مسلسلات الفتنة متجاهلة أغواره في عالم الذرات وما دونها وفي عالم المجرات وما علاها. كما تحدث الدكتور محمد سعيد مولاي عن مساهماته في الدعوة ونشر الإسلام في فرنسا في أثناء دراساته العليا بها، وذلك من خلال دروسه المسجدية وحلقاته مع العمال المغتربين، ومشاركته الأسبوعية في إحدى القنوات الوطنية الفرنسية (Antenne 2) التي أصبحت تسمى الآن (France 2)، وكان ذلك في الثمانينات من القرن الماضي. وحدثنا أيضا عن مساره في التعليم العالي بعد التحاقه بالجامعة المركزية، ونشاطه مع رفقائه في الدعوة منذ فتح مسجد الطلبة بنفس الجامعة في أواخر الستينات من القرن الماضي. وتحدث البروفيسور عن محيط المفكر مالك بن نبي منذ أن كان يتابع حلقاته الأسبوعية وينهل من دروسه ومحاضراته، كما تحدث عن دور ملتقيات الفكر الإسلامي في نشر وتوسيع الثقافة الإسلامية في ربوع الوطن، بعدما التحق بلجنة التنظيم بها في وقت تسييرها من طرف المرحوم مولود قاسم مع ثلة من تلاميذ مالك بن نبي الأوائل، وحدثنا عن احتكاكه بالعلماء الوافدين من مختلف أنحاء العالم إلى تلك الملتقيات التي تركت أثرا بليغا في أوساط الشباب والطلبة على وجه الخصوص. |
البصائر: من هو البروفيسور محمد سعيد مولاي؟
الدكتور محمد سعيد مولاي: ولدت في سنة 1948م بالمنطقة التاريخية حمزة الممتدة بين جبال جرجرة وسهول بني سليمان، عاصمتها مدينة البويرة التي تحتضن في أعاليها “برج حمزة” وهو الحصن المنيع الذي شُيِّد في عهد العثمانيين، وفي منطقة من مناطقها الريفية تدعى عين حازم التي يتخللها وادي غمارى الجاري بين محطة حمام كسانة السياحية ومدينة سور الغزلان العريقة. وإن قرى عين حازم الخصبة بإنتاجها الزراعي والفلاحي تابعة لمدينة الهاشمية التي تحمل اسم الشهيد الهاشمي خريج المدرسة الباديسية والذي كان محافظا سياسيا إبان الثورة التحريرية ولا تزال صورته تراود مخيلتي أيام كنا أطفالا نتدارس كتاب الله في كتاتيب تلك الديار ويزورنا فيها سي الهاشمي مع المجاهد البطل سي حميمي وهما يتأملان في ألواحنا المعروضة عليهما ويوزعان علينا أنواع الحلويات والإكراميات.
ولا تزال صور كثيرة عالقة بذهني مع أولئك الرفقاء من الولدان والأطفال، خاصة منها أحداث معركة بوقرزون الكبرى التي انتشرت بأوزارها على منطقة وادي غمارى وما جاورها وفيها التقى الجمعان وجها لوجه. فتشردت على إثرها جموع النساء والأطفال، قد رحل عنهم الرجال كلهم مع الثوار، في ليلة ليلاء يمشون فيها بين أشلاء القتلى ودوي المدافع وقنابل الطائرات، ويخوضون تارة في أدغال الغابات وتارة يجوبون البطحاء والهضاب، ولا تكاد تفرق في تلك الليلة بين صياح الأطفال وعواء الذئاب، ولا يدري أحد إلى أين المفر وأين الذهاب. حتى أطل الصباح وظهر في الأفق مجمع من المباني القصديرية يدعى “لابراك”، كانت قوى الاستدمار قد أقامته لتحشد فيه أهالي الأرياف، بهدف عزل المجاهدين عن الطعام والإيواء، ذلك المجمع الذي أضحى بعد الاستقلال يدعى بالهاشمية.
والدي الشهيد عمر -رحمه الله – وأسكنه فسيح جنانه كان إماما، وقد استشهد سنة 1957م بعد أن قبض عليه أثناء تلك المعركة المشار إليها سابقا وكان ذلك في شهر رمضان من تلك السنة التي شن فيها بيجار ومنفذ أوامره أوساريس حملة همجية للتنكيل بالجزائريين عبر ربوع الوطن.
والدتي من منطقة الأحرار بالقبائل في قرية إقصارين، بلدية “آيت لعزيز” التابعة لدائرة البويرة، تلك القرية التي يعلوها مقام الولي الصالح أومحند رمز التقى والنهى والثبات على دين التوحيد، ويتوسطها مجلس ثاجماعت الذي كنت كلما مررت به في صغري ملكني شعور بالصرامة، صرامة الانضباط والأحكام التي لا مفر منها ولا مرد لها.
دراستي الأولى كانت في المدرسة القرآنية التي أسسها والدي بـ “وادي غمارى” حيث يوجد على مقربة منها ضريح الولي الصالح “بن يونس”. وبعد استشهاد والدي تولى شؤون المدرسة عمي “بن حنفية” الذي كان حافظا لكتاب الله وإماما، وكان والدي قد أرسل أخوين له (الشيخ القريشي -حفظه الله – والشيخ محفوظ -رحمه الله -) إلى معهد إبن باديس بقسنطينة لمتابعة دراستهما، وبعد تخرجهما قاما بفتح مدرسة عصرية حرة في مدينة البويرة ثم بعين بسام، وفي هذه المدينة الأخيرة التحقت مع والدتي وإخوتي بعد الدمار الذي لحق بقريتنا من قبل قوى الاستدمار، التحقت بأعمامي المشرفين على تلك المدرسة، فتلقيت بها دروس حفظ القرآن والحديث والنحو والصرف وكذا الحساب، كما التحقت بالمدرسة الابتدائية العامة سنة 1958م في سن متأخر، وفي سنة 1962 تحصلت على شهادة السادسة بثانوية “عمارة رشيد” في العاصمة وزاولت فيها دراستي الثانوية إلى حين التخرج منها والحصول على شهادة الباكالوريا سنة 1968م.
وقد شهدت هذه السنة الأخيرة أحداثا كبيرة في عاصمة فرنسا، تَغيَّر على إثرها نظام الحكم الفرنسي وكان لذلك انعكاسات على الجزائر المستعمرة، وفيها التحقت بالجامعة المركزية بالعاصمة الجزائرية حيث درست في فرع الرياضيات وتحصلت بها على شهادة الليسانس، وبعدها انتقلت إلى جامعة نيس بفرنسا وتقدمت فيها لنيل شهادة الدكتوراه من الدور الثالث، ثم عدت إلى الجزائر وتقلدت وظيفة أستاذ مساعد في الجامعة المركزية، ثم تحصلت على انتداب لاستكمال دكتوراه دولة في جامعة “نانسي” الفرنسية، لأعود بعدها نهائيا إلى أرض الوطن ولأشتعل ولا أزال كأستاذ في علوم الرياضيات بجامعة باب الزوار.
دكتور حدثنا عن سر اهتمامكم بعلوم الرياضيات؟
-درست في الستينات كما ذكرت سابقا بثانوية “عمارة رشيد” التي كانت تدعى بثانوية الأبيار الفرنسية-الإسلامية، وهي ثالث الثانويات الثلاث التي أسستها فرنسا في المدن التالية: تلمسان، وقسنطينة والجزائر العاصمة، بهدف تكوين إطارات مزدوجة الثقافة، حتى يتولوا مهام الواسطة بين الادارة الفرنسية والشعب الجزائري الذي كانت تسميه بالأهالي. فكانت المواد ثرية وموزعة بين اللغتين الفرنسية والعربية، ورأيت بأن المواد العلمية كلها تدرس في تلك الثانويات باللغة الفرنسية، كالرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة حتى التاريخ والجغرافيا والأدب الفرنسي، أما اللغة العربية فكانت مقتصرة على الأدب العربي فقط وكأنّها لغة لا تمت بصلة إلى تلك العلوم، فراودتني فكرة الانتصار إلى لغة الضاد بالعمل على تمكينها من اقتحام مختلف العلوم الحديثة، حتى تسترجع مكانتها كما كانت عليه بالأمس في أوج الحضارة الإسلامية تحمل في طياتها مختلف العلوم بلا استثناء ولا مناص من تعلمها لمن أراد دراسة تلك العلوم آنذاك. وكانت المادة العلمية البارزة إنّما هي مادة الرياضيات، فعزمت على اقتحامها والتخصص فيها لرفع تلك التحديات اللغوية في مجال العلوم، وذلك هو الحافز الأساس وسر اهتمامي الباكر بعلوم الرياضيات، مع كونها بالإضافة إلى تلك الأسباب الظرفية تعتبر أم العلوم لتوغلها في العلوم كلها. فلا الفيزياء تستغني عنها ولا الكيمياء كما هو مألوف منذ القدم حتى العلوم الإنسانية كما هو الشأن حديثا، فهي تعتبر بمثابة العمود الفقري لكل العلوم. واليوم في عصرنا الحديث نحن مقبلون على الثورة العلمية الرابعة التي سيسود فيها الذكاء الاصطناعي وعلوم الرياضيات التطبيقية في شتى المجالات.
وقمت في السبعينات من القرن الماضي برفقة زميلي عتيق يوسف وأستاذ آخر من تونس الشقيقة بالجامعة المركزية وكذلك مع الأساتذة خالد سعد الله وعبد الحفيظ مقران وآخرين بالمدرسة العليا للأساتذة، قمنا جميعا بتعريب علوم الرياضيات في الجامعة لأول مرة بعد الاستقلال، كما قمنا بتدريس تلك المادة (طور الليسانس) باللغة العربية، وكان ذلك بفضل سياسة الدولة آنذاك وعلى رأسها الراحل هواري بومدين الذي جعل من قضية اللغة العربية إحدى القضايا الأساسية التي لا رجعة فيها وعمم استعمالها كلغة الدراسة في جميع الأطوار ولغة الإدارة في جميع مرافقها، وللأسف الشديد تم ترك هذا القرار جانبا بتجميد المشروع وتوقيف استعمال اللغة العربية إلى يومنا هذا، فكانت إجراءات متضاربة ومتناقضة للغاية ترتبت عنها إشكالات متراكمة ومستمرة، منها على وجه الخصوص معاناة الطلبة بعد انتقالهم إلى الجامعة (الفروع العلمية) حيث يصطدمون بتحول لغوي فجائي وغير مدروس فيختل استيعابهم لتلك العلوم التي اختاروها للتخصص فيها. وبالتالي فإن لغة التدريس للعلوم تمثل إشكالا كبيرا لانعدام التناغم والانسجام بين الأطوار التعليمية.
تخصصتم في علوم الرياضيات، لكن من خلال محاضراتكم لمسنا اهتمامكم أيضا بالفكر الإسلامي، حدثنا دكتور عن سر ازدواجية مجال اهتمامكم وأبحاثكم؟
-نشأت في بيئة تعاليمها الإسلام أبا عن جد، وأول مدرسة ترددت عليها في صغري هي المدرسة القرآنية، وكان والدي الشهيد إماما وحفظت معه جزءا من كتاب الله وجزءا آخر مع عمي الحافظ لكتاب الله أبو الحنفية، إلى أن أخرجنا من ديارنا الاستدمار الغاشم، فالتحقت بالمدرسة الابتدائية الفرنسية، حتى كانت مرحلة الثانوية الفرنسية-الإسلامية، فكان أغلب أساتذة اللغة العربية فيها حفظة لكتاب الله وملمين بالتعاليم الدينية، فأخذنا عنهم منهم سعة من الثقافة الإسلامية في كثير من جوانبها.
ولما التحقنا بالجامعة المركزية سنة 1968م تمّ فتح مسجد الطلبة في السنة نفسها، فتعرفنا بهذا المسجد الذي تأسس على تقوى الله، على المفكر مالك بن نبي والشيخ الشعراوي وغيرهما من العلماء والمفكرين، ننهل منهم جميعا جوانب كثيرة من الفكر الإسلامي والتحديات التي تواجه العالم الإسلامي، فأكرمنا الله بهم جميعا ومكن لنا بالتوفيق بين العلوم الإسلامية والعلوم الطبيعية، وتعرفنا على مشكلات الحضارة وعلى الدور الرسالي الذي ينبغي انتهاجه للقيام بنهضة الأمة.
دكتور هل لديكم اهتمام بالإعجاز العددي؟
-طبعا لدي اهتمام بذلك وأنا عضو في جمعية الإعجاز في الكتاب والسنة، مكتب الجزائر. الإعجاز العددي جزء مهم في عصر الحاسوب، فكان لا بد من الاهتمام به للمساهمة في إظهار آيات الله في هذا الجانب من العلوم، وقد وفق بعض الباحثين في ذلك، لكن ظهرت عينة من الدراسات التي لم تحترم الضوابط الشرعية والمنهجية، فضلّ أصحابها ضلالا بعيدا وأعطوا صورة خاطئة عن الإعجاز. فتشعبت على إثرها الآراء بين مؤيد للإعجاز ورافض له.
وحجة المؤيدين قولهم إن كلام الله ليس كقول البشر بل فيه إعجاز بنص القرآن فكان من دواعي نشر الفكر الإسلامي البحث في مجال الإعجاز العلمي في القرآن والسنة النبوية إظهارا للحق وإبطالا للباطل.
وأما حجة الرافضين فهي على العموم قائمة على اعتبارات عدة منها على وجه الخصوص ما ظهر من زلات تسيئ إلى كتاب الله ونشر الدعوة خاصة في الأوساط العلمية. من هذه الأخطاء ما قيل مثلا عن استنباط سرعة الضوء (التي تقاريب 300 ألف كم في الثانية) من كتاب الله بنفس المقدار المعروف حديثا وذلك باستعمال مفاهيم رياضية بطرق مغلوطة تحسبها من البراهين القاطعة وهي سفسطة في لباس خضراء الدمن.
أو كمثل تحديد تاريخ يوم القيامة -وفي ذلك مغالطة صارخة – بناء على اعتبارات عددية قائمة على مضاعفات رقم 19، بينما نعلم بنص القرآن أن ذلك من الغيب الذي لا يدركه الإنسان، إذ يقول تعالى: “يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو”(الأعراف 187). وقصة ذلك أن المصري رشاد خليفة (1935-1990) هاجر إلى أمريكا للدراسة وتخصص في الكيمياء الحيوية ثم استوطن فيها، ونظرا لقلة المراجع الدينية بحوزته أقبل على ترجمة القرآن الكريم إلى الإنجليزية لتعليم أبنائه علوم القرآن في دار الهجرة. وأدى به ذلك إلى دراسة علمية لكتاب الله فارتأى أن يدخله في الحاسوب ليجري عليه عمليات حسابية.
فاكتشف كما يدعي “أعظم المعجزات” وهي أن بنية النص القرآني قائمة على مضاعفات العدد 19، واستوحى ذلك من قوله تعالي: “سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لوّاحة للبشر عليها تسعة عشر” (المدثر 30).
فلا تجد في كتاب الله حرفا ناقصا أو زائدا بل كل حرف يخضع لانسجام محكم مع غيره من الحروف كمثل البنيان المتراص لا ترى خللا في اللبنات المتنوعة التي يقوم عليها البنيان. فعلى سبيل المـــثــــــــــــــــــــــــال لا الحصر وجد خليفة أن عدد الســــــــــور قابلـــــــــة للتقسيم على العدد 19 (114 / 19= 6)، وعدد حرف ص في سورة ص وحدها فقط قابل للقسمة على عدد 19، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع الحروف النورانية مثل ألم، كهيعص، حم إلخ. وتوسع في هذه الدراسة إلى أبعد حد ممكن فبهر بها كثيرا من علماء الإسلام وأصبح مطلوبا في العديد من المحافل الدولية لإلقاء محاضرات يشرح فيها المعجزة الكبرى، حتى ذهب به الغرور ليعلن بأنه هو “رسول الميثاق” المعني في سورة آل عمران الآية 81 وفي سورة الأحزاب الآية 7 حيث يقول فيها تعالى:”وَإِذْ أَخَذْنَامِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوح ٍوَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا”. وقام بتشييد مسجد في المدينة التي يقطن فيها توسان (أرزونا) يبلغ للناس تلك المعجزة التي ذاع صيتها في الجرائد والمجلات والملتقيات. وذكر لي أحد شيوخنا الأفاضل حفظه الله وأطال في عمره، أنه زار رشاد خليفة في أمريكا وقدم له هذا الأخير بطاقته الخاصة مكتوب عليها: رشاد خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم – وهو يعلم علم اليقين أنه لا نبي بعد خاتم النبيين سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم -.وقد استضافه قبل ذلك، المرحوم مولود قاسم في السبعينات من القرن الماضي، ليلقي محاضرة في أحد الملتقيات للتعرف على الفكر الإسلامي، وما كان أحد في الجزائر آنذاك يعلم كثيرا عن رشاد خليفة إلاّ أنّه قد وفقه الله لاكتشاف معجزة العدد 19 التي أبهر بها العالم. وفي هذا الملتقى الذي حضرته، أعلن رشاد خليفة أنه جاء بهذه المناسبة ليختص الجزائر بمفاجأة ما سمع بها أحد من قبله، تتمثل في استعمال حساب الجمَّل الذي يعتمد على الأعداد المقابلة للحروف الأبجدية، وهو حساب قديم استخدم في اللغات السامية ويعطى كل حرف عددا معينا يدل عليه، كمثل أ=1، ب=2، س=60، ص=90، ق=100، غ=1000، إلخ. وبناء على هذا النوع من الحساب القديم، استعمل الحاسوب ليجمع أعداد جميع الحروف التي نطق بها القرآن الكريم من أولها إلى آخرها، فوجد من المدهش أن المجموع قابل للقسمة على عدد 19، وبما أن هذا المجموع هو أكبر عدد يمكن استخراجه من كتاب الله وهو عدد لا يخلو بدوره من الإرتباط بمضاعفات 19، ادعى – تأويلا وليس من البرهان في شيئ- بأن ذلك العدد يشير إلى تحديد تاريخ يوم القيامة، فوقع زلزال من حدة الأصوات التي ملأت قاعة نادي الصنوبر حيث كانت تجري أشغال الملتقى، ولولا أن قام مولود قاسم رحمه الله دعا الحضور إلى التهدئة ما كان لأحد أن يهدأ له بال. ورجع رشاد خليفة بعد ذلك إلى أمريكا، ولست أدري إن كان تاب وتراجع عن غروره وما ذهب إليه من افتراءات حتى سماه بعض العلماء مسيلمة أمريكا، ومات مغتالا ومطعونا على يد أحد الأمريكان السود.
وأرى أن الإقتصار على ما هو ثابت في بُنَى النص القرآني بأنه قائم على مضاعفات العدد 19 من دون تأويل باطل أو برهان خاطئ، وترك المجال للمزيد من البحوث المعتمدة على الضوابط الشرعية والمنهجية، فذلك هو الأفضل والله أعلم، وهو ما ارتآه بعض المخلصين في حقل الدعوة والإعجاز إذ لا يزالون يواصلون البحث فيما صح من دراسات رشاد خليفة وتفنيد ما بها من الادعاءات والمغالطات التي أخرجها صاحبها في لباس الإعجاز وهي لا تمت إلى الإعجاز في شيئ.
هذا عن معجزة العدد 19، ونخلص منها إلى أن أمر الإعجاز حقيقة لا تنكر لكن يجب الحذر والتمسك بالضوابط وعرض البحوث على أهل الاختصاص في العلوم الدينية والكونية معا.
وبإمكاننا ذكر نماذج أخرى لا تحصى ولا تعد، تتبين من خلالها أهمية الإعجاز في إبراز آيات الله الكائنة في الآفاق والأنفس ليتبين الحق ويزهق الباطل. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
أطوار الجنين في بطن أمه، تلك الأطوار التي لم يكتشفها الإنسان إلا في العصر الحديث ولا تزال البحوث متواصلة في شأنها، بينما ذكرها القرآن الكريم بتفاصيل دقيقة عرضها الشيخ عبد المجيد الزنداني على البروفيسور كيث مور، مؤلف الكتاب الجامعي الشهير: “The Developing Human ” (أطوار خلق الإنسان) فاقتنع هذا الأخير بهده الحقائق المذهلة في كتاب الله وأضاف جوانب منها في الطبعة الثالثة لكتابه “أطوار خلق الإنسان” وهي الآن منتشرة عبر العالم بثماني لغات ومرجع أساسي للدارسين والباحثين.
أطوار خلق السماوات والأرض التي تبين للإنسان المعاصر من خلال نظرية الإنفجار الأعظم (BigBang) أنها كانت في البداية ذرة موحدة وشديدة الكثافة ثم كان انشطارها وانفصال أجزائها وانتشارها إلى ما هي عليه كما أنها في توسع مستمر بناء على نظرية التمدد (Expansion of theUniverse). وقد جاء ذكر بداية خلق السماوات والأرض بتفصيل دقيق تؤكده نظرية الانفجار الأعظم، وذلك في قوله تعالى: “َأوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ”(الأنبياء 30)، كما أشار الذكر الحكيم إلى توسع الكون الذي تؤكده نظرية التمدد وذلك في قوله تعالى: “وَالسّماءَ بنَيناها بِأَيدٍ وإِنَّا لَمُوسعون” (الذاريات 47)
ومن المواضيع التي بحثت فيها شخصيا وحاولت إلى جانب باحثين آخرين أن نغوص في أغوارها على ضوء العلوم الحديثة هي آية الأزواج التي جاء ذكرها وتفصيلها في مواطن كثيرة من كتاب الله، منها ما يبين شمولها على الخلق سواء منها ما نعلمه كأزواج البشر والحيوان والنبات والجماد، أو ما لم نكن نعلمه إلا في العصر الحديث بعد ما تقدمت العلوم كمثل الزمكان (الزمان والمكان) الذي تبين تزاوجهما من خلال نظرية النسبية أو كمثل زوجية الضوء إلى جسيمية وموجية ودورهما في النظرية الكمية (الكوانطا)، وهناك من الأزواج بمفاهيمها الشاسعة ما يبقى غير معلوم وبعيدا عن الإدراك إلا أن يشاء الله أمرا، إذ يقول الحق تبارك وتعالى:”سُبحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزوَاجَ كلَّها مِمَّا تُنبتُ الأرضُ وَمِن أَنفسِهم ومما لاَ يَعلَمُون” (يس 36)، وجاء عن شمول الآية قوله تعالى: “ومٍن كُلٍّ شَيئٍ خَلَقنَا زَوجَينِ لعلَّكم تذَكَّرُون” (الذاريات 49). وهي من الشروط الأساسية للحياة مثلما عادت الحياة تدب في الأرض كما تعود المياه إلى مجاريها بعد حادثة الطوفان التي أصابت قوم نوح عليه السلام ومن بعد ما أمر سيدنا نوح بصنع السفينة وحمل أنواع شتى من الأزواج فيها، إذ يقول تعالى في ذلك: “حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل” (هود 40).
ولقد أصبحت اليوم هذه الآية العظيمة تشغل اهتمامات كثير من الباحثين والمخابر العلمية في شتى أنحاء العالم و في شتى المجالات، أذكر على سبيل المثال الباحث صباح كرم الخبير في مجال علوم الرياضيات والإعلام الآلي بجامعة ستانفورد الأمريكية، والسيد بيتر راولاندز في مجال علوم الفيزياء بجامعة ليفربول البريطانية، فهما وغيرهما قد خاضوا في أعماق آية الأزواج، وتجدر الإشارة إلى أن منهم من يعلم ذكر الآية في كتاب الله ومنهم من لا يعلم ذلك وإنما أدت به بحوثه العلمية إلى اكتشاف شمولها في الكائنات على مستوى الذرات وما دونها أو في عالم المجرات وما علاها.
فلا شيئ في خلق الله يستثنى من سنة الأزواج بمفاهيمها الجامعة، سواء منها الدينية أوالكونية على حد سوء، ويقول في هذا السياق شيخ العارفين، الشيخ الأكبر: “سبحان الذي شاء ان يبرز العالم بالشفعية لينفرد سبحانه بالوترية” (ابن عربي: الفتوحات المكية)، بمعنى أن الخلق كله أزواج لحاجة بعضهم إلى البعض ولا غنى لشيئ بمفرده عما سواه من الخلائق إلا الخالق: فهو الواحد الأحد والغني عن العالمين، وفي ذلك أسمى معاني التوحيد الخالص.
بذكرك المفكر مالك بن نبي حدثنا عن محيطه وأنتم عشتم وسط أفكاره ومحاضراته؟
-لقد تم فتح مسجد الطلبة في الجامعة المركزية سنة 1968م بإيعاز من الأستاذ مالك بن نبي، وكان قد أوصى تلاميذه الأوائل، قائلا: لئن تفتحوا مصلى بمتر واحد داخل الجامعة خير لكم من أن تفتحوه خارجها.
ومن حسن الحظ والحمد لله أن صادف ذلك الفتح دخولي إلى الجامعة. فتعرفت فيه على تلامذة مالك بن نبي، وهم من أخذوني إلى بيته حيث كانت له حلقة أسبوعية، وأصبحت حينها ملتزما بحلقات مالك بن نبي. وكنت أيضا ملتزما بدروس ومحاضرات الشيخ متولى الشعراوي الذي كان على رأس البعثة المصرية، كما كنا نأخذ من مشايخ آخرين كالشيخ صبحي صالح، والدكتور المنجرة المعروف بالاستشراف.
وشرع الطلبة، خاصة منهم عبد العزيز بوليفة، في إعادة طبع كتب مالك بن نبي ونشرها، كما صدرت مجلة بإيعاز من مالك بن نبي، وانطلق انعقاد ملتقيات الفكر الإسلامي، كانت مختصرة في بدايتها على ثلة من الطلبة ثم صارت دولية عندما تولى مولود قاسم رحمه الله مهام وزارة الشؤون الدينية.
حدثنا كذلك دكتور عن نشاطكم في مسجد الطلبة بالجامعة المركزية؟
-أولا كان كما أشرت لك مجلة بعنوان: «ماذا أعرف عن الإسلام» باللغة الفرنسية لأن الدراسة في جميع الفروع العلمية والطبية كانت بالفرنسية وكان لا بد من مخاطبة القوم بلسان الدراسة مع اختيار المواضيع المناسبة والهادفة.كانت المقالات الرئيسة بقلم مالك بن نبي وكان الطلبة يشاركون في تحرير بعض المقالات ويجتهدون في توزيعها في الحرم الجامعي والأحياء الجامعية.كما كنا نحضر بانتظام حلقات المسجد ونتقاسم مداولة المكتبة وحراسة المسجد، إضافة إلى المشاركة في تحضير ملتقيات الفكر الإسلامي.
ومن المعلوم أن الوسط الطلابي يعج بتبادل الأفكار والمناقشات الحادة أحيانا كما كانت على وجه الخصوص المنظمة الطلابية المسماة «بالاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين» (UNEA) ذات توجه شيوعي – تروتسكي وكانت تسيطر على النشاط الجامعي، وهي المنظمة التي خلفت «الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين» (UGEMA)، من بعد ما أسقطت حرف M (Musulmans) من الشعار.
فتصدت مجموعة من طلبة المسجد بالمجادلة الفكرية مع المجموعات أو المنظمات الطلابية التي كانت تنكر على دين الإسلام قدرته في تنظيم الحياة الاجتماعية وسياسة الدولة، وكان التحاور ساخنا إما وجها لوجه أو عن طريق المعلقات في بهو المدخل الرئيسي للجامعة، ثم انتقل الجدال الفكري إلى الأحياء الجامعية مع تنظيم معرض الكتاب للتعريف بالفكر الإسلامي.
وتوسع نشاطنا الدعوي بفتح مساجد أخرى في الأحياء الجامعية، وانتقل بعدها إلى المساجد العامة، ثم التحقنا بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين لما رجعت إلى نشاطها. كما التحقنا بجمعيات أخرى مثل جمعية الإعجاز المشار إليها سابقا، وانتقل نشاطنا إلى فرنسا بفتح المساجد وتنظيم الملتقيات ونشر التعاليم الإسلامية ونشر الكتب والمجلات بالفرنسية، أذكر منها على سبيل المثال المجلة الشهرية France-Islam.
حدثنا عن ملتقيات الفكر الاسلامي التي كانت تُنظم حينها؟
-هي ملتقيات الفكر الاسلامي كما كانت تدعى في بدايتها ثم صارت من بعد ذلك تدعى ملتقيات التعرف على الفكر الإسلامي، وكانت متميزة وتدرجت من محلية وطنية إلى دولية، وكان يحضرها الطلبة الجامعيون وتلاميذ الثانويات والأساتذة بمختلف الإختصاصات، إلى جانب علماء ومفكرين من الأقطار العربية الإسلامية وشخصيات شهيرة من أسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا.
انعقد الملتقى الأول في أواخر سنة افتتاح مسجد الطلبة (1968) وكان ذلك في ثانوية عمارة رشيد بالعاصمة، وشارك فيه جمع من الطلبة والأساتذة، منهم الأستاذ مالك بن نبي والشيخ متولي الشـــــعراوي والطبيب الداعية أحمد عروة -رحمهم الله جميعا – مع منظمي الملتقيات منذ نشأتها: رشيد بن عيسى وعبد الوهاب حمودة -رحمه الله – اللذين كانا يشتغلان في وزارة الدينية، ومن كان معهما من الطلبة الأوائل مثل محمد جاب الله وعبد القادر حميتو وغيرهم. وانعقد الملتقى الثاني بالمدرسة الوطنيــة للإطارات الدينيــة في مدينة مفتاح بضواحي العاصمة سنة 1969.أما الملتقى الثالث فقد جرت أشغاله في مدرسة المعلمين في بوزريعة في الأيام الأخيرة من سنة 1969 وبداية سنة 1970.
وبعد ذلك انتقل الملتقى من طابعه المحلي إلى النمط الدولي مع تولي المرحوم مولود قاسم وزارة الشؤون الدينية، وانعقد الملتقى الرابع تحت إشرافه بقسنطينة في صائفة سنة 1970، وفي هذا الملتقى انضممت مع رفيقي في الدراسة صادق سلام إلى لجنة التنظيم، مما ساعدنا على الاحتكاك بالطلبة وخاصة مع الشيوخ والمفكرين الوافدين من أنحاء العالم. وتوالت بعد ذلك ملتقيات الفكر الإسلامي تشد الرحال كل سنة في إحدى المدن عبر الوطن، لدراسة وتحليل مواضيع كثيرة ومتنوعة، منها ما يهم الشأن الإسلامي العام ومنها ما يرتبط بالأحداث الراهنة أذكر منها: نظرة المؤرخين غير المسلمين إلى الحضارة الإسلامية، المؤامرات التي تعرضت لها وحدة الأمة الإسلامية وواجبنا حيال ذلك، نشاط التبشير ودوره الاستعماري التخريبي بالأمس واليوم، أخطار اندماج أبناء الجاليات الإسلامية فـي الهجرة وواجب الدول الإسلامية نحوهم، روح الشريعة الإسلامية وواقع التشـريع، دور وسائل التأثير على الجماهير(الصحافة والسينما والتلفزة) في البناء أو التخريب الذاتي، ومواضيع أخرى تعتني بمحاور أساسية أذكر منها: محور الاجتهاد والصحوة الإسلامية وموضوع الحياة الروحية في الإسلام والأمة الإسلامية ووحدتها ووسطيتها. ومن المواضيع أيضا ما يتعلق بالمنطقة الحاضنة للملتقى أذكر منها: موضوع النفط: هل هو نعمة أم نقمة؟ الذي تناوله ملتقى تمنراست، وموضوع مساهمة تلمسان الزيانية في الحضارة و الفكر الإسلاميين العالميين، وموضوع أهقار تاسيلي ودور قــارة أفريقيا في المجال الحضاري والثقافي الذي جرى في ورجلان (مدينة ورقلة)، وموضوع استقلال الجزائر و دور الإسلام في ثوراتنا التحريـرية طيلة مقاومتنا. وكان آخر ملتقى انعقد في العاصمة سنة 1990 وتناول موضوع الساعة: الاقتصاد الإسلامي وتحقيق التنمية الشاملة.
ساهمتم بنشر الإسلام في فرنسا حدثنا عن هذه التجربة؟
-تواصل نشاطنا الدعوي في فرنسا من خلال مسجد باريس والتنظيمات الإسلامية وبعض القنوات التليفزيونية والجرائد. في البداية، سنة 1973، نزلت بمدينة نيس في جنوب فرنسا للدراسة، وكنت رفقة أخ تونسي كان طالبا ومتزوجا أتردد على بيتهما للصلاة معا. وكانت حرمه مسيحية وناشطة في الحقل المسيحي، ومنَّ الله عليها بأن وفقها لاعتناق الإسلام فساعدتنا في اقتناء قاعة كبيرة في إحدى المرافق التابعة للكنيسة، وعندئذ اتخذنا تلك القاعة مصلى وشرعنا في إقامة الشعائر بها، وكنت أقوم بخطبتي الجمعة، أولاهما باللغة العربية والثانية باللغة الفرنسية حتى أمكنها هي وغيرها من متابعة الجمعة. والتحق بنا طلبة آخرون منهم من أصبح اليوم من قادة الجالية الإسلامية في أوروبا، وتوسع النشاط مع العمال المهاجرين من أجل تقديم دروس الوعظ والإرشاد لهم، وساهمنا في حوار الأديان، من ذلك مشاركتنا في مؤتمر نظمته جمعية الصداقة الإبراهيمية بمرسيليا في السبعينيات من القرن الماضي. وكانت تجربة ثرية في هذا الحوار بين الأديان إذ تعرنا على أهل الكتاب ووجدنا ما قال فيهم ربنا: “ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى. ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون” (المائدة 82).
ثم توسع التواصل مع الجالية الإسلامية في فرنسا وأوروبا عموما من خلال المشاركة في الملتقيات السنوية وكتابة المقالات في الجرائد. وتطورت الأحوال كما قيل من “المصليات في أسفل المباني تحت الأرض” إلى “المساجد الفسيحة ذات القبب والمآذن المرفوعة في السماء”.
وعلمنا بمن سبقنا في الإيمان بتلك الديار، كأمثال أتباع “روني قينون” (René Guénon 1886-1951) الذي غالبا ما يعرف ككاتب فرنسي في الإعلام الغربي بينما كان من أبرز الأكاديميين الفرنسيين، تجاهله أقرانه وتجاهلوا مؤلفاته وبحوثه، لكن الله ثبته وجعل له أتباعا يهدون إلى دين القيمة بإذن ربهم، منهم من التقينا بهم في إيطاليا ومنهم من انتشروا في فرنسا واعتلوا مراتب عليا في الأدب والثقافة، كأمثال السيدة الربانية إيفا ميروفيتش (Eva Meyerovitch: 1909-1999) والتي ربطتها صداقة حميمية مع حرم صديقي التونسي المشار إليه سابقا.
كانت لكم أيضا مساهمات في الإعلام الفرنسي حول الإسلام، حدثنا عنها؟
نعم كانت لي مشاركات في الإعلام الفرنسي في سنوات الثمانينات عبر قناة Antenne 2 التي أصبحت تسمى الآن France 2، وكان ذلك في الثمانينات من القرن الماضي . ذلك لأني عينت في تلك الفترة مسؤولا ثقافيا بمسجد باريس الذي كان يترأسه الشيخ عباس بلحوسين، وبذلك أشرفت على حصة “التعريف بالإسلام” (Connaître l’Islam) من خلال برنامج ديني يبث كل يوم أحد صباحا، حيث كان يشارك فيها اليهود بربع ساعة ثم يسمح لنا كمسلمين بالمشاركة بربع ساعة أيضا، وبعدنا يأتي دور النصارى.
ماذا تقولون في كلمتكم الختامية؟
-كنت منذ المرحلة الثانوية أبحث عن الانسجام بين الدين والعلم، لما شاهدته من تباين بينهما في أثناء الدراسة المزدوجة التي تلقيتها في الثانوية الفرنسية الإسلامية كما أشرت إلى ذلك سابقا، حيث كانت المواد العلمية كلها تلقى بالفرنسية بينما كانت العربية مقتصرة على الأدب والثقافة العامة.
فتساءلت أفي ذلك تضاد وعجز في لغة القرآن؟ أم هو العكس تماما، بينهما انسجام وتناغم كما تدل على ذلك تلك الأيام التي بلغت فيها الحضارة الإسلامية أوجها، وقد قال تعالى: “وتلك الأيام نداولها بين الناس” (آل عمران 140).
وتأكد لي ذلك حينما وقعت في مطلع دراساتي الجامعية على كتاب “الظاهرة القرآنية” ورافقت كاتبه في تلك الظروف الشاحنة بالأيديولوجيات والمذاهب والافتراءات على دين القيمة، فتبين لي بالحجة والدليل وزادتني التجارب تأكيدا وتوثيقا بأن من أراد أن يكون متضلعا في هذا الدين عليه بالعلوم ومن أراد أن يتوسع في العلوم عليه بالدين، فهما أمران يلتقيان ولا يتنافران، وقد ذُكِر قول السلف الصالح بأن لله كتابين وهما المسطور والمنظور: أما المسطور فهو القرآن الكريم الذي نزل وحيا وأما المنظور فهو العالم الذي نعيش فيه ونشاهده، ولا تكون القراءة كاملة إلا بالقراءة في الكتابين معا، وفي ذلك طريق للفلاح والسؤدد وسبيل إلى الرقي والتفضيل، والفوز بالدارين الأولى والآخرة، إذ يقول الحق تبارك وتعالى “يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات” (المجادلة 11). وذلك ما نرجوه وننصح به الشباب الذين هم رجاءنا في رفع التحديات والفوز بأعلى الدرجات، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم.