معارك ثقافية وهمية 01
أ. عبد القادر قلاتي/
تابعت كما تابع غيري مجريات محاكمة سعيد جاب الخير، الذي يصفه اتباعه بالباحث في الفكر الإسلامي، بتهمة الإساءة للإسلام، وحاولت أن أبحث عن كتابات الرجل، لأقرأ ما كتب، فوجدت له كتابا واحدا حول التصوف، كتبه في وقت كان قد اتجه إلى هذا المجال قادما من الفكر الإسلامي الحركي، وانتقل خلال مسيرته من اتجاهات متعددة إلى أن استقر به الحال داعية للعلمنة ولمقولاتها التلفيقية لمسائل الدين، وعلاقة المجتمع والدولة به. إلاّ أنّ الرجل أكثر من الضجيج وعلا صوته ممثلاً لتيار العلمنة فيما يتعلق بالقضايا الدينية ومدافعاً عن مقولاته التأويلية، من خلال وسائل الإعلام المرئية أو من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وجلّها تصبّ في مشروع مقايضة التيار الإسلامي، على قيادة المجتمع (امتلاك الشارع السياسي)، ومن ثمّ الدولة كهدف استراتيجي، ولهذا نرى أنّ استمرار الشغب الفكري وأدواته على الإسلام، هو خياراً انتهجه التيار العلماني في كثير من دول العالم الإسلامي، حيث فتح الباب واسعاً أمام خطاب التجديف، لإدارة الصراع الفكري الذي كان المشروع الاستعماري الغربي يديره بالأمس القريب، وسلّم -فقط- ملفه لأتباعه من تيار العلمنة الذي يواصل المشروع من بعده. إن هذه المحاكمة ليست إلاّ وهماً ثقافياً، يحسب من يتابعها أننا أمام معركة ثقافية مهما توسعت دائرة تأثيرها السلبي، تظل تضفي على حياتنا الثقافية متعة فكرية، وزاداً معرفياً يثري فضاءها وينقل المجتمع إلى حالة من التحول الفكري المستمر، الذي يفضي إلى نتائج تزيد الحياة الثقافية انتشاراً وتأثيراً، إلاّ أنّ العكس تماماً هو الصحيح، والأمر ببساطة أن جاب الخير ليس مثقفاً حقيقياً يحمل مشروعاً فكرياً ناضجاً، يجعل من لغة الحوار والنقاش والنقد أدوات للإثراء وتفعيل نتائج مشروعه في حياتنا الثقافية والفكرية، وإنّما هو مجرد ناقل لأفكار منتشرة ومبثوثة في الكتب والمدونات التي يقف وراءها تيار العلمنة بوجهه الإيديولوجي المفضوح، والتعامل مع هذا النوع من المثقفين المزعومين يحوّله إلى ذلك المثقف العضوي المنخرط في قضايا بلاده، ويعطيه مكانة سامقة في سجل النّضال الفكري والثقافي، وهو لعمري أقلّ بكثير من هذه المكانة، التي سيمتلكها بعد هذه المحاكمة التي تشكل -بالنسبة إليه – هدية مجانية. ربما انتظرها كثيراً ولم ينلها قبله جملة من الكتبة الذين مارسوا شغباً فكرياً على تراث الأمة الديني والثقافي. أنا من الجيل الذي قرأ عن الكثير من المعارك الفكرية في تاريخنا القديم والمعاصر، وتابعت في منتصف التسعينات المحاكمة الشهيرة للمرحوم نصر حامد أبو زيد، التي نقلته من مجرد استاذ مساعد في كلية الاداب جامعة القاهر إلى أستاذ في أعرق جامعة استشراقية في الغرب، وهي جامعة ليدن بهولندا، والفرق بين الرجلين كبير وواسع، ولولا هذه المحاكمة التي تصدق بها الإسلاميون في مصر على أبي زيد لبقي استاذ مغموراً في جامعة القاهرة، لا يعرفه إلاّ طلابه وبعض اليسار الذي تبنى معركة الشغب الفكري على الدين، منذ استقر تياراً سياسياً في واقعنا المعاصر. وللحديث بقية.