إلى أين تتجــــــه بوصلــــة الإصــــــلاح؟

أ. لخضر لقدي/
مر على الجزائر منذ استقلالها قرابة ستة عقود، وما تزال تائهة في بحر لجي واسع عميق متلاطم الأمواج، ويبدو أن بلوغ شاطئ النجاة وغاية الاستقلال ما زال بعيدا.
وما لم نحدد ملامح الطريق، وما لم نشمر على ساعد الجد، ونبذل أقصى المجهود، ويسود القانون، ويكون الناس سواسية وتوزع الثروات بعدل فإنّ بلوغ الغاية والوصول إلى النهاية يبقى حلماً بعيدًا.
ولا شك أنّ إصلاح الذات يكون بوصلة للإصلاح العام، وأن صلاح الحاكم يؤثر في صلاح المحكوم، وكما تتأثر العامة بالحكام والعلماء، يتأثر الحكام والعلماء بالعامة، فقد لوحظ أنّه غالبا ما تكون اهتمامات النّاس وصلاحهم على حسب صلاح واهتمامات من يحكمهم، جاء في كتاب لطائف المعارف لأبي منصور الثعالبي النيسابوري: كان الأغلب على عبد الملك بن مروان حب الشعر، فكان النّاس في أيامه يتناشدون الأشعار، وكان الأغلب على الوليد بن عبد الملك حب البناء واتخاذ المصانع وكان النّاس في أيامه يحرصون على التشييد والتأسيس، وكان الأغلب على عمر بن عبد العزيز حب الصلاة والصوم وكان النّاس في أيامه يتلاقون، فيقول الرجل لأخيه: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ وبكم تختمه؟ وكم صليت البارحة؟ وهل أنت صائم؟.
وصدق من قال: إنّ النّاس على دين ملوكهم والسلطان سوق يجلب إليها ما ينفق فيها، وهذه المقولة حكمة مأخوذة من خلال النّظر في تاريخ النّاس، وليست حديثا يروى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم – فلم يخرجه إلاّ الديلمي ولم يصححه أحد من علماء الحديث،
وروى البيهقي في الشعب قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: كَمَا تَكُونُوا كَذَلِكَ يُؤَمَّرُ عَلَيْكُمْ. ولكنه ضعف الحديث من جهة سنده.
والغرب يعتمد نظرية العقد الاجتماعي، فالمواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، والنّاس على دين دساتيرهم، والحاكم والمحكوم يتحاكمان إلى الدستور، والحق أن هذا هو الذي فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم – حينما هاجر إلى المدينة، فدستور المدينة جعل كلا من المسلمين واليهود أمة، تجمع بينها الجغرافيا والحقوق السياسية: قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم – كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم، وخطب أبو بكر الصديق حينما تولى الخلافة فقال: أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلاّ ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلاّ عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».
غير أن نظرية العقد الاجتماعي بفلسفتها الحديثة- (كما وضعها كل من هوبز وجان جاك روسو ولوك والعديد من الفلاسفة الأوروبيين)- سبقتها وثيقة المدينة وخطبة أبي بكر في تحديد دور الدولة في الحكم، ودور الحكومة في السلطات المنوطة لها، ودور الشعب في علاقته بالدولة أيضا، كما أنّ عبارة الفاروق رضي الله عنه: «مَتَى استعبَدْتُم النَّاسَ وقد ولَدَتْهُم أُمهاتهِم أحراراً»، لا تزال مادة من موادّ الدّستور الأميركي، وإنّما غيَّروا عبارة الفاروق إلى:يولَدُ النَّاسُ كُلهُم أحراراً متساويين.» وهب أنّ ذلك مُجرّد توارد خواطِر، فأسبقهما معروف.
وحدثنا التاريخ أنه بعد أن تحررت فرنسا من الظلم الذي خيم عليها، قامت الاحتفالات والأفراح بنجاح الثورة، وعندما وضع قادة فرنسا بيانا لثورتهم1789م، قرأ الخطيب (لافاييت) البيان الأول للثورة الفرنسية، وجاء فيه: يولد الرجل حرا ولا يجوز استعباده. ثم قال: أيها الملك العربي العظيم عمر بن الخطاب، أنت الذي حققت العدالة كما هي. وهو يشير بذلك إلى قول الفاروق رضي الله عنه:متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. والقصة أخرجها ابن عبد الحكم تلميذ الإمام مالك في فتوحات مصر وأخبارها، وأوردها ابن الجوزي في مناقب عمر بن الخطاب، ومحمد بن يوسف الكاندهلوي في حياة الصحابة. وكم أسفت من وجود من سمى نفسه أثريا فقال إن القصة واهية سندا ومتنا، ونسي نفسه أنه من فقهاء السلطان عملاء الاستعمار، الساقطون في حمأة الهوان.
وممّا يؤسف له: أن الدساتير والقوانين في بلاد الإسلام تغير بما يناسب الحاكم، كما تغير الأحذية والنعال، وقد أثبتت الأيام فسادهم وعجزهم ومع ذلك ما يزالون يقدمون أنفسهم ويتصدرون القوائم، فالذين انتخبوا لعهدة يطمعون في عهدات مع أنّهم يقينا لن يضيفوا شيئا ولن يقدموا جديدا، والذين ساهموا ويساهمون في إقرار تغيير الدساتير حسب رغبة الحاكم، يعودون ينتقدونها حينما يكتوون بنارها، ويستفيقون على وهم كانوا يعيشونه وحلم لم ولن يتحقق.
والشعب هو صاحب السيادة وهو مالكها ولكن بما أنّه لا يملك أن يباشرها بنفسه كان لابد أن يوكل عنه غيره ليباشرها، فإذا كان الشعب صالحا، ولى عليه رجالا صالحين، وإذا كانت نسبة الفساد فيه عالية، تولى عليه المفسدون، وهذه الحقيقة أشار إليها القرآن بقوله: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ» [الزخرف: 54]. وهذا هو التفسير الصحيح للتاريخ.
وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه، لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله .والقرآن واضح وجازم في التعبير عن هذا القانون: «وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» .[الأنعام: 129].
وهل يعتقد عاقل أن الظالم الفاسد المرتشي والزاني المختلس المزوٍّر الكذاب، والمستورد للسلع الفاسدة، والأطعمة الملوثة، والمزوِّر لإرادة الأمة، المستغل منصبه لتحقيق مكاسب شخصية، يمكن أن يتغير بسهولة.
إنّ أمامنا أحد طريقين: إما الطريق الذي وصفه الإمام مالك -رحمه الله – بقوله: «لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا»، وقد أيدت صلاح هذا الطريق التجارب وأكدته الحوادث.
وأما الطريق الذي اختارته الأمم المعاصرة وهو الاتفاق على عقد اجتماعي يلتزم به الحاكم والمحكوم، ويكون الصندوق هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحكم باختيار حر لا تزوير فيه ولا كذب ولا تخويف، وهو ليس طريقنا الأمثل، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
ومصيبتنا تزيد حينما نكون على مفترق طريق لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وليتنا نسلك الطريق الذي خطه الله لنا، أو ليتنا نستفيد مما عند الغرب من خير، «فالْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا».(ابن ماجة).
وأزمتنا تشتد حينما نجد من يبرر للاستبداد ويشرعن للطغيان باسم الدين.
فاللهم سترك للإنسان وحفظك للأوطان.