دروس الـــمحن والــمصائـــب
عبد العزيز كحيل/
قضت سنة الله أن تهتز أجزاء من الكون بالزلازل والفيضانات والأوبئة وأنواع الكوارث الطبيعية، والملاحظ أنه كلما حدث ذلك تعامل معه كثير من المسلمين تعاملا عاطفيا بعيدا عن حقائق القرآن والسنة وحتى حقائق الواقع، ولجّوا في التفسيرات المستبعدة والتأويلات العاطفية، وحصروا الكوارث في عقوبات سماوية معجلة بسبب معصية طفت هنا أو هناك، رغم أن الوحي يبيّن أن هذه المحن قد تكون عقوبات معجلة لكنها قبل ذلك ظواهر طبيعية تصيب الكرة الأرضية كلها، وتنزل على البشر مؤمنهم وكافرهم، وإنما يغتنمها المؤمنون فرصة ليروا يد الله تعمل، وليروا قدرته وقوّته سبحان وتعالى عيانا، فيستغفروا ويتوبوا ويستقيموا، وقد نزلت الكوارث الطبيعية كالسيول والأوبئة بالمسلمين زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن الراشدين، مثلما حدث قبل ذلك وبعده، وهلك فيها الأبرار كما هلك الفجار.
من جهة أخرى تُثار دائما قضية ملازمة هي أن هذه المحن والمصائب ستجعل الناس يتغيّرون حتما نحو الأحسن، فما حقيقة كل هذا؟
أجل… ينزل الله تعالى من حين لآخر على عباده من الشدة والضرّ ما يلجئهم إليه، أما الكافرون فيتبلد حسّهم ولا يزيدهم ذلك إلا ضلالا، وأما المؤمنون فتقرعهم الضربات فيفزعون إلى عتبة باب الله يدعونه مخلصين له الدين، يرجونه وتتعلق به قلوبهم ويجدون في بواطنهم حلاوة الإيمان، فتصبح الشدة والضرّ نعمة كبرى تجدد الإيمان، وتجدد العهد مع الله، والمؤمن يُبتلى ليهَذب لا ليعذب، قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً}[سورة الإسراء: 59] يترتب عن ذلك التجاء المؤمنين إلى الله بقلوب مخبتة وألسنة ضارعة: «اللهم إنا لجأنا إليك فاحْمنا، وأعلنا خوفنا من آياتك فعافنا، ورجعنا إليك فاغفر لنا وخفف عنا».
وهذا سياق ينطبق عليه قول الإمام ابن عطاء الله السكندري: «من لم يقبل على الله بملاطفات الإحسان سيق إليه بسلاسل الامتحان».
لكن في الضفة الأخرى نجد أن الشدة التي تسوقها الكوارث والأوبئة وأنواع المصائب لا تزيد الكافرين – في الغالب – إلا كفرا، ولا تزيد الجاحدين إلا جحودا، ولا تزيد الضالين إلا ضلالا، ويرتكب خطأ سننيا فادحا من يعلق آمالا عريضة على الابتلاء ليعيد هؤلاء إلى الله وينقلهم من الكفر إلى الإيمان، ومن الجحود إلى الشكر، ومن الضلال إلى الهداية، فالناس لا تصلح أحوالهم بالأوبئة والكوارث والمصائب والأمراض الفتاكة، إذ سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم والسيرة النبوية والواقع كما سأذكر، وإنما تصلحهم التربية والتوعية والدعوة، وقد رأيت هذا الوهم انتشر بكثرة في الأيام الأولى من كورونا، و«بشّر» بعض المتحمسين المسلمين بأن العالم سيتغيّر بعد كوفيد 19، وأن الأمم الكافرة ستدخل الإسلام عن بكرة أبيها، وأن العصاة عندنا على أبواب توبة جماعية عارمة، وكنت أضحك بيني وبين نفسي من هذه السذاجة الموغلة في السطحية، وهي نفس العقلية التي كانت عند بعض الشيوخ زمن الاحتلال الفرنسي، حيث كانوا يوصون الناس بختم الصلوات بترديد عبارة «يا لطيف» ألف مرة، وسيخرج الاستعمار!!! وكان بعضهم في مصر إذا ركبوا السفينة في البحر أو واد النيل يفتحون صحيح البخاري ويتلونه جماعيا لينجوا من العواصف والغرق، فعلّق بعض الظرفاء على ذلك بقوله: «السفينة تمشي بالبخار لا بالبخاري».
ماذا تقول سنن الله الماضية التي تحكم الإنسان والحياة والمجتمعات؟
-{وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[سورة الأنعام: 28]، هذا تعقيب الله تعالى على قول الكفار وهم على شفير جهنم، كما ذكر القرآن الكريم: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[سورة الأنعام:27].
-{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ}[سورة الزخرف: 49]، هذا ما قاله قوم فرعون لموسى بعد أن استجاب الله دعاءه وأنزل عليهم عقوبات متنوعة، فقال الله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}[سورة الزخرف: 50].
– قصة النمرود مع إبراهيم عليه السلام: مدّ يده ليمسك بالسيدة سارة فتجمدت اليد فطلب من إبراهيم أن يدعو الله بإطلاقها فأطلقها، فعاود مدّها إليها.
– وحكى القرآن كثيرا من هذه المواقف، منها قول قوم هود لنبيّهم: {سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ}[سورة الشعراء: 136]، (وذكرني هذا بقول ذلك المسؤول الكبير في وزارة الثقافة في الأيام الأولى للوباء لما رأى الناس يستغيثون الله تعالى، قال: هذا الوباء شيء دنيوي لا دخل لله فيه»!!!).
– وقرر كتاب الله حقيقة موقف الجاحدين من المعجزات وهي أكثر وقعا من المحن: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ}[سورة الحجر: 14/15].
فليربأ العاطفيون بأنفسهم عن التفسيرات المجانبة للصواب وليلجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، ولْيغلبوا الواقع على الأوهام، والإسلام لا يُخدم بمثل هذا ولكن بالدعوة البصيرة والعلم الراسخ والمعرفة الدقيقة لحقائق الوحي والكون.