احتكار الخدمات، والمبالغة في غـــلاء أجرتها مخالف للقيم الإنسانية

الشيخ محمد مكركب أبران
Oulamas.fetwa@gmail.com/
قالت السائلة (د.ج) (وهي طبيبة من تونس): من بين المرضى الذين يقصدونني للعلاج، فقراء (حد الحال كما قالت) وأريد أن أساعدهم، فأخفض الأجرة عن القيمة التي يأخذها غيري من الأطباء. فلامني زملائي الأطباء والطبيبات، وقالوا لي: من حقك أن ترفعي الأجرة إلى المستوى العالمي، والأطباء في الخارج يكسبون كذا وكذا، وللفقراء أن يقترضوا، أو يستعينوا بالمحسنين، وأنت لست مسؤولة عن الفقراء. وسؤالي هو:{هل احتكار الخدمات النادرة والعزيزة ورفع أسعارها وتكاليفها جائز شرعا،؟ قياسا على ما سمعت الفقهاء يقولون في التجارة {لاتسعير}؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله.
أولا: احتكار المصالح والخدمات والقوت الضروري عمل مخالف للأخلاق الحسنة: وأبدأ من حيث ختمت السائلة سؤالها. وأقول: حقيقة لقد ورد في الحديث. أن المسعر هو الله تعالى. فمما رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والدارمي. فعن أنس قال: قال الناس: يا رسول الله، {غلا السِّعرُ فَسَعِّرْ لنا،} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ] (أبو داود:3451) ولكن هذا في العروض التجارية، في التبادل التجاري، في البيوع، عملا بقول الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ﴾ (النساء:29) ولا أرى قياس الخدمات على تبادل العروض التجارية، وخاصة الخدمات الإنسانية كالتعليم، والطب، بل وحتى في العروض التجارية تفصيل. فمن هو التاجر الذي لايُسَعَّرُ له؟ هو الذي ينتج سلعة ويبيعها بنفسه أو بواسطة عماله، فيعرضها ويَثَمِّنُها كما يشاء وفق العرض والطلب، كمن يربي النحل وينتج العسل، وكمن يغرس شجر اللوز وغيره ويجمع الغلال فله أن يبيع ويسعر لنفسه وفق العرض والطلب، وكمن يربي الأنعام فله أن يطلب الثمن الذي يحقق له التكاليف والفائدة ليواصل العمل الفلاحي وتربية المواشي، وكمن يزرع وينتج الحبوب ويقوي الاقتصاد. وكمن يخترع آلة أو يصنع مركوبا، فله أن يطلب السعر الذي يشاء، وقانون العرض والطلب في السوق هو الذي يحدد السِّعر، إلى آخره، والذي يخترع دواء ويصنعه هو الذي يحدد السعر لما أنتج وصنع، بناء على قدر ما أنفق من مال وجهد، لكن عندما يصل إلى الصيادلة، فعلى الصيدلي أن يأخذ فائدة تساوي قدر عمله في إيصال الدواء إلى المريض فقط، ولا يصح له ولا يجوز له أن يزيد في الربح كما يشاء، لأنه ليس هو الذي انتج الدواء، ولا يبيع كما يشاء ويحتكر الدواء، لذلك يُسَعَّرُ للصيدلي، بتقويم حسابي يسري على جميع الصيادلة. وقس على ذلك. والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.
ثانيا: قالت السائلة: (فلامني زملائي الأطباء والطبيبات، وقالوا لي: من حقك أن ترفعي الأجرة إلى المستوى العالمي) وأقول: لقد أخطأ زُملاءُكِ في مقالتهم هذه التي تدل على استيلاء حب المادة على القلوب، والتطلع إلى الدنيا وشهواتها، وعلى قلة قيمة التراحم عندهم، كما أن احتكار الخدمات من الجشع الذي يدل على موت الضمائر، وكان الواجب عليهم أن يقتدوا بك، ويرحموا عباد الله تعالى، وأن يعملوا على بناء مجتمع التكافل والتضامن والتراحم والتعاطف. إن ذلك الشره والتطلع النفسي الطَّمَعِي لحياة الرفاهية الزائدة مرض نفسي، وهو الذي كان سببا يضاف إلى العراقيل السياسية في البلدان المتخلفة لتظل متخلفة، حيث تجد بعض المهندسين، وبعض المفكرين، وبعض الأطباء، يتحركون بالاعتبار المادي المصلحي، لابالاعتبار الوطني الإنساني، يقول أحدهم: إن مثلي في البلد الفلاني يتقاضى مرتبا كذا وكذا، فلايرضى خدمة وطنه وبني قومه بمرتب زهيد ولو كان يكفيه وأكثر، ويفضل الهجرة إلى الخارج، لخدمة الخارج. وما أجمل أن يكون التقليد في التقدم التقني والخدماتي وليس في الأجرة. نعم إن النبي عليه الصلاة والسلام حث على إعطاء الأجير حقه. فعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ، قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ] (ابن ماجة. كتاب الرهون.2443) ولكن الأجر الذي يساوى تكاليف الخدمة، وليس الأجر الذي يحتكر الخدمة ويرهق المحتاج لهذه الخدمة.فمن خصال الإيمان أن يحب المسلم لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، قال النبي عليه الصلاة والسلام: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ – أَوْ قَالَ: لِجَارِهِ – مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ](مسلم.45) معناه لا يبلغ المؤمن كمال الإيمان حتى يدفعه إيمانه إلى معاملة المؤمنين كما يحب لنفسه. والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.
ثالثا: إن الرفق والرحمة بالمحتاجين قيمة إنسانية يعمل بها الإنسانيون: واقول: نعم توجد مبالغات كبيرة في رفع ثمن أجرة الخدمات الطبية، وغيرها، قالت السائلة: (نصحها زملاؤه بأن ترفع الأجرة إلى المستوى العالمي) وأقول لها اعملي بنصيحة النبي عليه الصلاة والسلام.عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: [إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ] (مسلم. كتاب الزهد.2963) فالمسلم في العلم والتطور والتحضر فلينظر إلى من هو فوقه في دراجات العلم والمعرفة والاختراعات وينافس في الارتقاء لينفع الأمة بالخدمات المتطورة، أما في المادة في الاستمتاع بالدنيا، فَبِنَصِّ نصيحة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أن ينظر إلى من هو دونه. والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.
وفي الحديث.[فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَ اللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ] (البخاري: 4015)
رابعا: من القيم الإنسانية الرفق بالناس، واجتناب الغلاء الفاحش: فلا يسمع الطبيب المؤمن إلى رغبات نفسه فقط، وإنما فلينظر إلى المريض الذي لايجد قوت يومه، ولايجد ما يشتري به ثوبا يستر جسده. أقول للأخت الطبيبة السائلة، فاستمري على قناعتك، وواصلي خدماتك الإنسانية، فبارك الله فيك، وكثر الله عز وجل من أمثالك، وهدى الله أهل الشره والجشع،. كوني من الذين يرحمون الناس، ويفضلون العيش كبساطة عيشة الناس، ليكونوا في الدرجات العالية في الجنة، آمين. والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.