ما قل و دل

حاجة الناس إلى الذوق/ محمد الصالح الصديق

الشيخ صديق آيت صديق – رحمه الله – كان إماما بمدينة تغزيرت لفترة لا تقل عن أربعين سنة. درس بجامع الزيتونة، وتخرج منه بشهادة التحصيل في العلوم سنة 1951م، وتولى التدريس في مدارس جمعية العلماء المسلمين، ولما اندلعت الثورة شارك فيها بغرب الجزائر.

وما إن انتهت الثورة، وأشرقت شمس الحرية على الجزائر، وغمر النور كل نواحيها وأرجائها، وانطلقت النفوس مع آمالها، في طريق الحياة حتى كان الشيخ الصديق قد فقد بصره كلية، وفقد الأمل في الرؤية، وصار رهين المحبسين.

وكنت إذا زرته في بيت حدثني في ألم وحزن عن حاله الذي ينتزع الشفقة والرحمة من أقسى القلوب، وكان ما يثير حزنه وقلقه حديث زواره إليه، ذلك الحديث لا يدل إلا على قلة الذوق الأدبي، والحس الاجتماعي، ومراعاة الظروف والأحوال.

فهناك من يقول له: إن العمى في الواقع نوع من الموت، بل هو أنكى منه وأشد، لأن الموت راحة، أما العمى فمعاناة دائمة، وهناك من يقول له: إني أعرف شخصا أصيب بالعمى فاعتزل الناس في بيته حتى طواه الموت…!

وهناك من يعدد له مشاريع يخطط لها، ويستعد لتنفيذها، وهو بذلك جد سعيد. وهناك من يقول له: من عرفك أيام كنت صحيحا أستاذا، بحيويتك ونشاطك، يصعب عليه أن يراك في هذا المصير.

وهكذا…؛ فعِوَض أن يُخففوا من محنته، ويلطفوا من حاله بكلمة لطيفة تشرح الصدر، وتؤنس النفس، وتفتح باب الأمل، يضاعفون من ألمه وحزنه، ويجعلونه يوثر هذه العزلة على الاختلاط بالناس.

إن أرقى العواطف البشرية هي التي تتجلى في الإنسان عندما يرى منظرا من مناظر البؤس والشقاء، أو يرى من نكدت به الأيام، وصار في بحر لجي من الآلام والأحزان.

فالذي لا تتفجر في أعماقه هذه العواطف وهو أمام منظر حزين مؤلم، فهو كالجسم بلا قلب، وكالإنسان بلا عواطف، وموجود بلا وجود.

وما أكثر هؤلاء الذي لا حس لهم في هذا العصر، وإن كانوا في كل عصر ومصر لا يخلو منهم مجتمع، كان حماد بن سلمة إذا رأى واحدا منهم قال:{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12].

وقال أحدهم في وصف ثقيل عديم الذوق والإحساس، ينتظم في سلك هؤلاء الثقلاء الذين أقلقوا راحة الصديق:

يا من تبرمت الدنيــــــــا بطلعتـــــــــه     كما تبرمت الأجـفـان بالرمــــــــــد

   يمشي على الأرض مختالا فأحسبه    لبغض طلعته يمشي على كبــــدي

    لو أن في الأرض جزءا من سماجته    لم يقدم الموت إشفــاقا على أحــــد

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com