صرخـــة الإبــداع بين الجــــوع المادي والإشباع الروحي

د/ عاشور توامة/
لكل مبدع بصمة فنية وصرخة إبداعية؛ فصرخة الشاعر فيما حفل شعره من متصورات الحياة المختلفة سواء الإنسانية أو المادية، فإذا أراد أن يكون شعره آسرا وخالدا تتناقله الألسنة وترويه الأجيال ويطير في الآفاق لابد أن ترفده التجربة، ويعضده المران ويخالط الواقع ويلامس حيوات الناس، ويتجنب الرتابة والنمطية ومزاج العصبية، ويتحرى الصدق الفني الخالص وعيار الجمال النفيس، وكذلك الأديب والرسام والمغني وغيرهم من المبدعين والمفكرين، غير أن هذه الصرخة قد تفقد بريقها ولمعانها وبوصلة هدايتها؛ إذا ما اتخذت من مسلك الجوع المادي وسيلة لإشباع خواء الجيوب وأداة للمصالح الشخصية الضيقة، واللهاث على الألقاب والنعوت وأرصدة الهدايا والعطايا والتهاني مطية للاستجداء والتكسب؛ من غير مظنة الاكتفاء والاستمرار في الإبداع إلا بقدر المقابل المادي وإجزال العطاء من غير تفرد، فذلك قتل للمواهب والسمو بالنفس الكريمة وانحدار بالروح الإبداعية الخلاقة، قد يكون هذا الجزاء المادي ضروريا من منطلق التشجيع والتحفيز وسيرورة الإبداع والتميز فقط؛ أما دونه فخرط القتاد.
غير إن الخطورة قد تأتي للمبدع من طمعه المفرط واستغلاله القبيح والمنكر وإقصائه البائس حينما يستبدل نداء الروح والشعور بنداء الحاجات العضوية والبيولوجية والمجاعات المادية والملاهي العبثية، فيحول الفن السامي إلى رغيف فان وجاه كذوب وافتراء مشوب وعنصرية مقيتة، إن الفن عطاء الروح وسمو النفس وعزتها، مادته الشعور وإلهامه اللاشعور، وقاعدته التجربة، ومرانه الممارسة، وأساسه الواقع، ومتصوّره الخيال، وبلسمه الحياة، وهواؤه القارئ النموذج، وقوامه النقد السليم، وصرخته المدوية عبر الزمن حافظة الأجيال، فارسم طريق الإبداع على خارطة الزمن الهارب لتبقى نقوشه في ذاكرة التاريخ المشرف والمنصف، ولا تنتظر المقابل من أحد، أو التصفيق من مجامل، لأنك بإبداعك الراقي ستسمو فوق رقاب المرجفين والموتورين والجاحدين، وتتربع على عرش الريادة والإبداع الأصيل، لا عرش القبيلة أو عنجهية التعصب أو امتطاء ظهور البسطاء والمنخدعين، ويذكر اسمك في جميل صفحة سمو الخالدين.
إن صرخة الإبداع الحقيقي نتاج نبرة صوتية قوية وخالدة، لا تعرف التوسل والاستجداء إلا بالاستعداد الحسن والنفس الطويل، ولا تستمر في العطاء إلا من خلال استثمار طاقات المبدع الإيجابية، ومنتخبات قدراته العقلية، ومواهبة الفطرية، وجماليات خياله الواسع الوقاد، وإرادته الصادقة وسموه الخالص.
إن المنطلقات السلبية للمبدع ستحكم عليه دوما بالفشل في حياته وفي علاقته الموتورة، وتدعوه دوما إلى الاستمرار في الفشل الذريع من حيث يعتقد أنه يحسن صنعا إذا لم يراجع نكباته المتواصلة، ممّا تنعكس خطورة ذلك على المتلقي الساكن والجمهور المريد، الذي رسمت له خارطة الفن الهابط دون أن يكون له فهم ثاقب أو فكر ناقد، ودون أن يتبصر أسس الجودة ومعايير النجاح الحقيقي، ودون أن ينظر يمنى أو يسرى إلى مرائي الإبداع الخلاق والنزوع نحو الأفضل.
إن الأمم المتطورة اليوم تبحث عن المبدعين في كل المجالات والتخصصات؛ بل تعمل على جذبهم وتسهل لهم سبل العمل والعيش الكريم؛ مما يسمح لهم بمواصلة الإبداع والاختراع وبالتالي الازدهار والتقدم والتفوق.