تأليف القلوب..ومسايرة المدعوّ/ محمد عبد النبي
الأمم الحيّة لا يبنيها أناس ذوو وهن في العزائم، أو اهتزاز في الأفكار والعقائد، ومهما كانت الفكرة فلابدّ لها -لكي تنتعش أو تزاحم- من حَمَلة أقوياء، وبخاصة في بدايات التخلّق، حتى إذا أقلعت بهم بلغوا بها الغاية أو قريبا منها، وإذا ضمِنت الأمم لنفسها إقلاعا قويا فلا يضرّها بعد ذلك أن يلتحق بركبها أنصاف الرجال أو ضَعَفتهم، أما إذا تسلّم القيادة هؤلاء فلن تلبث التجارب أن يذوي بريقها سريعا، لتلقى مصيرا غير محمود.
أخرج الإمام أحمد في مسنده (19/117) والضياء في المختارة (6/32-33) وأبو يعلى في مسنده (6/471) عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ” أسلم، قال: أجدني كارها ! قال: أسلم، وإن كنتَ كارها! ” قال محققه الأرنؤوط وكذا الألباني في السلسلة الصحيحة (3/439): “إسناده صحيح على شرط الشيخين”.
وأخرج أبو داود (4/637) عن وهب قال: “سألت جابرا عن شأن ثقيف إذ بايعت، فقال: ” اشترطتْ على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد ! وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا”. صحّح إسناده كل من الألباني والأرنؤوط.
دولة المدينة قامت على أكتاف صفوة من الصحابة تربَّوا على عيني الرسول صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث عشرة سنة في مكة، والأنصار منهم بايعوا عن عقيدة، وآووا المهاجرين عن حب وتضحية وإيثار، وهؤلاء هم الذين نصر الله بهم دعوته، وانتشروا في الآفاق فاتحين ومبشرين، فإذا ما التحق بالدولة الناشئة أناس مختلفو المراتب في الإيمان والاقتناع: فذلك من طبائع الأشياء، بل قد يلتحق بالدين حينها -إذ غدت دولته مهابة الجانب- أناس خائفون أو طامعون، وهؤلاء يشملهم موقع المؤلفة قلوبهم، يُستدرجون للإسلام وأحكامه شيئا فشيئا، إلى أن تنفتح قلوبهم بقدر من اقتناع، ينجيهم في دنياهم وأخراهم، وقد يكون هؤلاء ممن أثاروا عجب الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم “يُقادون في السلاسل إلى الجنّة” كما أخرج الإمام أحمد في مسنده (36/465).
والذي أعلن للرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال في نفسه كره باتجاه الإسلام كان صادقا مع نفسه، ومع الرسول، ويبدو أن هذا الملمح من شخصيته هو الذي أطمع الرسول فيه، فمثله سيأوي إلى الإيمان، ولو بعد حين، لكن الأهم من ذلك أن حالات هؤلاء كانت بعد أن تمكّنت الدولة من تثبيت أركانها، ووفْدُ ثقيف في النص الثاني دليل على ذلك، إذ لم يكن مقدمهم على الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد غزوة تبوك، سنة تسع من الهجرة النبوية الشريفة.
قال الخطابي في معالم السنن (3/35) -تعليقا على قول النبي صلى الله عليه وسلم:” سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا”-:”ويشبه أن يكون النبي صلَّى الله عليه وسلم إنما سمح لهم بالجهاد والصدقة لأنهما لم يكونا واجبين في العاجل، لأن الصدقة إنما تجب بحلول الحول، والجهاد إنما يجب لحضور العدو، فأما الصلاة (اشترطوا على النبي في رواية أخرى ألا يصلوا) فهي راهنة في كل يوم وليلة في أوقاتها الموقوتة، ولم يجز أن يشترطوا تركها”.
قال ابن رجب الحنبلي في الجامع (1/228-229):”…ولم يكن صلى الله عليه وسلم يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة، بل قد روي أنه قبل من قوم الإسلام، واشترطوا أن لا يزكوا..”
ثم قال تعليقا على الأحاديث التي أوردناها:”..وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث، وقال: يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ثم يُلزم بشرائع الإسلام كلها، واستدل أيضا بأن حكيم بن حزام قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائما ! قال أحمد: معناه أن يسجد من غير ركوع…” !
وهذه الأحاديث تسعف في وقتنا الحالي، فيمن أسلم، ألا يُثقل عليه بكثرة التكاليف، وأن يُنحى معه منحى التدرّج، ولئن ساغ هذا المنحى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهو في زمننا آكد وأجدى.