الموضوع: هل هذا القول حديث؟ أم أثر، وما مصدره وما معناه؟

الشيخ محمد مكركب أبران
Oulamas.fetwa@gmail.com/
السؤال
قال السائل: (أ. س) سمعت واعظا يقول: {أبعد الناس عن الله أقساهم قلبا} فهل هذا القول حديث شريف؟ وأين أجده، وما معناه؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين.
أولا: هذا الأثر رواه الترمذي في جامعه، ولكن ليس بالصيغة التي أوردها السائل. قال الترمذي حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي ثَلْجٍ البَغْدَادِيُّ، صَاحِبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لاَ تُكْثِرُوا الكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الكَلاَمِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ القَلْبُ القَاسِي](الترمذي، أبواب الزهد،بَابُ مَا جَاءَ فِي حِفْظِ اللِّسَانِ:2411). وعلق عليه الترمذي فقال: {هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَاطِبٍ}. فالترمذي يشهد بأنه حديث، ووصفه بأنه غريب وعلمتم أن مصطلح الحديث الغريب عند علماء الحديث معناه: (هو ما رواه راوٍ واحدٍ منفردا به، كأن ينفرد بزيادة في متنه، أو في إسناده، بِأَمْر لَا يذكرهُ غَيره من الروَاة. وحكم الغريب أن فيه الحديث الثابت عن رسول الله، وفيه المنكر غير الثابت) والترمذي ذكر أنه حديث غريب وفي تحفة الأحوذي، قال الشارح: {قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ الترمذي حديث حسن غريب} ووصف الحديث بأنه: (حسن). معناه أنه حديث ثابت، وفي الوسيط في علوم ومصطلح الحديث قال: {الحديث الحسن: هو ما عرف مخرجه (أي: عرف رواته) واشتهر رجاله (أي: اشتهروا بالعدالة)، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي قبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء}(ص:265). وفي مقدمة ابن الصلاح: {الحديث الْحَسَنُ مَا عُرِفَ مُخْرَجُهُ وَاشْتَهَرَ رِجَالُهُ}. قَالَ:( وَعَلَيْهِ مَدَارُ أَكْثَرِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَيَسْتَعْمِلُهُ عَامَّةُ الْفُقَهَاء ) قال: وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْحَسَنِ (أَنْ لَا يَكُونَ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، وَلَا يَكُونُ حَدِيثًا شَاذًّا، وَيُرْوَى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُ ذَلِكَ)}(ص:30) والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.
ثانيا: رُوِيَ هذا الحديث في الموطأ، رواية يحي بن يحي الليثي. قال الراوي: وحَدَّثَنِي مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَانَ يَقُولُ:[لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ، فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ اللهِ، وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ، وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ، وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ، فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى، وَمُعَافًى، فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ، وَاحْمَدُوا اللهَ عَلَى الْعَافِيَةِ] (الموطأ. كتاب الكلام. باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله. ص: 698. ف: 1806 رواية يحي بن يحي الليثي).
ثالثا: شرح الحديث الذي رواه أبو عيسى الترمذي [لاَ تُكْثِرُوا الكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الكَلاَمِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ القَلْبُ القَاسِي].
أما قوله [لا تكثر الكلام بغير ذكر الله] فهو نهي عن الثرثرة، واللغو، ولهو الكلام، فالمؤمن يقول الخير أو ليصمت، وهذه قاعدة أخلاقية معروفة في آداب الإسلام، وفيه تنبيه إلى أن بعض الكلام مباح وهو ما فيه الصلاح، ويحقق الفلاح. [فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب] وبغير ذكر الله هنا المقصود به الكلام اللغو والباطل، والله تعالى أعلم، لأن سبب قساوة القلب نسيان ذكر الله تعالى، وكثرة الكلام بغير ذكر الله تنسي العبد ربه، ومن ثم يقسو قلبه، ويصير لا يسمع كلام الحق، ولذلك تجد أهل اللهو واللعب وأهل الفسوق يغرقون في المجون ولا يُبَالون، لقلة الخشية، ولموت قلوبهم.
وقوله: [وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي] بعد القلب كناية عن بعد صاحبه، ومن ثم كان أبعد الناس عن الله صاحب القلب القاسي. فالخاشع من خشع قلبه، والمطمئن من اطمأن قلبه، والصالح من صلح قلبه، ومن القرآن. قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ﴾[الحديد:16]. ﴿أَلَمْ يَأْنِ﴾، معناه: ألم يَحِنْ، ألم يَقْرُبْ، ﴿أَنْ تَخْشَعَ﴾ أن تَذِلَّ، وتَلِينَ بالذكر، خضوعا وخنوعا لله تعالى.
وقول الله تعالى: ﴿وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ﴾ هذا فيه دعوة وتذكير وتأديب لأهل الكتاب الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، بأن تذل قلوبهم وتلين للقرآن، وأن يتبعوا ما نزل فيه من الحق، وفيه أيضا تذكير وموعظة للمؤمنين من الصحابة بأن لا تلهيهم الدنيا ومرحها وزهرتها وتقسو قلوبهم كما قست قلوب اليهود.
رابعا: ما هي علامة القلب اللين المخموم؟ أداء الفرائض في وقتها، وحب التقرب إلى الله بالتطوع من النوافل في العبادات، وفعل الخير في مساعدة المحتاجين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، ولئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ](البخاري.6502) والقلب الخاشع اللين الرقيق، هو القلب المخموم (الصافي الطاهر التام النقاء)، ففي الحديث عن عبد اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: [كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ]، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: [هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ](ابن ماجة. كتاب الزهد. 4216) والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.