شؤون اقتصادية

الـمصرف الإسـلامي… تاجـر هـو أم وسيــط مالــي ؟! (الجزء الثاني)

إعداد : أ. د. الطيب لحيلح */

رابعا: هل المصرف الإسلامي وسيط مالي؟
للتأكد من طبيعة عمل المصرف الإسلامي نأخذ الصيغ التي يوظف فيها أموال مودعيه.

الجدول رقم ( 1 ) صيغ التمويل في المصارف السودانية

المصدر: بنك السودان، التقرير السنوي عن السنوات 2011/ 2012 / 2013

يلاحظ من خلال الجدول أن الصيغ التي تتعامل بها المصارف الإسلامية في السودان تتصدرها صيغة المرابحة فما هو شكل المرابحة؟ وهل هي صيغة من صيغ الوساطة أم لا؟.
شكل المرابحة، كما تجريها المصارف الإسلامية، وكما هي في الفقه؛ بيع بضاعة بالثمن الأول مع زيادة معلومة فوق رأس المال. أو كما هي في القانون الجزائري «عقد يقوم بموجبه البنك أو المؤسسة المالية ببيع لزبون سلعة معلومة يملكها البنك، بتكلفة اقتنائها، مع إضافة هامش ربح متفق عليه مسبقا، ووفقا لشروط الدفع المتفق عليها» ؛ حيث يتقدم العميل إلى المصرف طالبا منه سلعة معينة، ونظرا إلى أن المصرف لا يقوم بالشراء المسبق للبضائع فيعد المشتري بالسلعة، ويتفق معه على السعر والتاريخ الذي يعود فيه المشتري لاستلام البضاعة، مع دفع الثمن كاملا أو تقسيطه عند الاستلام. هل هذه الصيغة فيها شيء من الوساطة؟ المصرف هنا حصل على الأموال من المودعين لصالح نفسه، حيث اشترى بها بضائع وباعها، كما يبيع التجار، فهو هنا تاجر وليس وسيطا.
كما يلاحظ من خلال الجدول، كذلك أن الصيغة التي تأتي في المرتبة الثانية من حيث حجم التعامل هي المشاركة، فما هي المشاركة التي تتعامل بها المصارف الإسلامية؟
المشاركة في المصارف هي اتفاق اثنين أو أكثر، أحدهم هو المصرف، على خلط ماليهما (أو أموالهم) بقصد الاسترباح، ونتيجة هذا الخلط يصير المصرف مالكا لموضوع الشركة، حسب حصته في رأس مالها، يتصرف فيه كأي شريك آخر.
وقبل عملية الخلط، يقوم المصرف بالإجراءات التي يقوم بها أي مستثمر للتأكد من جدوى الاستثمار في هذا المجال، وبعد الخلط يبدأ المصرف في المشاركة في إدارة الاستثمار، للحصول على الربح، مثله في ذلك مثل بقية الشركاء؛ أي أن المصرف هنا تحول إلى مستثمر ولم يعد وسيطا.
أما الصيغة الثالثة من حيث حجم التعامل في المصارف الإسلامية فهي المضاربة، وتمثل حوالي 6%، فما هي المضاربة التي تتعامل بها المصارف الإسلامية؟
المضاربة في المصارف الإسلامية هي شركة في الربح بمال من جانب (رب المال) وعمل من جانب آخر (المضارب) بمعنى آخر المال من الجمهور ( الموسط عنده) والوساطة من المصرف (الوسيط) والعمل على جهة آخرى (الموسط له)؛ فهذه الصيغة هي الوحيدة التي تفيد معنى الوساطة المالية، مع تحريف في بعض أحكامها المتعلقة بالعائد الذي يحصل عليه أطراف العملية، لكن التعامل بها نادر، والحكم في الإسلام ينبني على الغالب. أي أن المصرف الإسلامي يبقى تاجرا وليس وسيطا، حتى ولو راجع الأحكام المتعلقة بالعائد في صيغة المضاربة.
هذا الخلط في مهام المصرف الإسلامي يرجع إلى الأساس الفقهي الذي قام عليه عمل المصرف الإسلامي، ألا وهو المضاربة المطلقة وليس الوساطة المالية؛ فالمصرف الإسلامي مضارب بأموال المودعين وليس وسيطا، ولذلك وجدناه يستعمل كل صيغ التمويل الإسلامية؛ ما يتناسب مع الوساطة المالية وما لا يتناسب معها… ما يفيد الاقتصاد الوطني وما يضره.
خامسا: من أفتى للمصارف الإسلامية بالعمل بصيغة المضاربة؟
يرجع تاريخ هذه الفتوى إلى عام 1952 حين ألقى الدكتور محمد عبد الله العربي بحثا في دمشق حول ضرورة وجود المصارف الإسلامية، وطريقة عملها عندما تنشأ، وكانت آنذاك لم ينشأ أي منها في العالم العربي، فاقترح أن يكون المصرف مضاربا بأموال الغير مضاربة مطلقة، على اعتبار أن المضاربة المقيدة تقيد المصرف، ولا تترك له فرصة اختيار مجالات الاستغلال المربحة. ولكن عندما بدأت تجربة المصارف الإسلامية في ستينيات القرن الماضي، وتوسعت في سبعينياته أخذت بالفتوى الجاهزة ولم تحاول الاستفادة من تجربة المصارف الربوية في مجال الوساطة المالية.
سادسا: ماذا خسر الاقتصاد الوطني من جراء تخلي المصارف الإسلامية عن الوساطة المالية؟
يخسر الاقتصاد الوطني أشياء كثيرة من جراء قيام المصارف الإسلامية بالعمل على أساس المضاربة المطلقة، لعل أهمها :
1. تبديد الموارد المالية والمادية. وذلك حين يقوم المصرف باستثمار أموال عملائه عن طريق المرابحة والسلم والاستصناع؛ فمعروف أن المصرف حين يتعامل بهذه الصيغ فإنما يتعامل في السلع، والمصرف ليس معروفا كتاجر بل كممول، فحين يحصل على تلك السلع التي مول شراءها أو إنتاجها، فقد لا يجد لها مشترين، فتتكدس البضائع السنة والسنتين ، فيتلف بعضها ، وخاصة المنتوجات الزراعية، ويضطر المصرف لبيع البضائع الكاسدة التي لم تتلف بأسعار تقل عن سعر التكلفة، ويتكبد المصرف خسائر في تلك الصفقات.
وبالرغم من أنه يقوم بتعويض هذه الخسائر من نتائج أعماله في النشاطات الأخرى، إلا أنه يمكن القول بأن المصرف قد أساء تخصيص المال حين وجهه إلى تلك العمليات التي حققت خسارة.
2. أخذ أموال الناس بالباطل. وذلك حين يتحول المصرف من مضارب إلى رب المال ويعطي المال إلى مضارب ثان، ويشترط عليه قسمة الربح بينهما، فالمصرف هنا لا يوجد لديه مسوغ لأخذ الربح؛ لأن الربح في الإٍسلام يؤخذ بأحد ثلاثة أسباب: العمل والمال والضمان. والبنك ليس واحدا من هذه الثلاثة؛ ليس عاملا، ولا صاحب المال، ولا ضامنا للمال تجاه أصحاب المال. وقد أشار ابن قدامة إلى هذه المسألة فقال : وإن أذن رب المال في دفع المال مضاربة جاز ذلك. نص عليه أحمد. ولا نعلم فيه خلافا، ويكون العامل الأول وكيلا لرب المال في ذلك. فإذا دفعه إلى آخر ولم يشترط لنفسه شيئا من الربح كان صحيحا، وإن اشترط لنفسه شيئا من الربح لم يصح؛ لأنه ليس من جهته مال ولا عمل . والربح إنما يستحق بواحد منهما.
وإن قيل بأن المصرف عمل حين بحث عن المستثمرين ووقع معهم الصفقة… نعم هذا عمل لكن لا يمت بشيء إلى العمل الذي تحقق الربح بسببه؛ وهو عمل المضارب… فالمضارب سافر للبحث عن السلعة، والمضارب عقد الصفقة باسمه، والمضارب حمل السلعة إلى محلاته، والمضارب تفاوض مع الزبائن، والمضارب تحمل الأخطار المصاحبة لكل الأنشطة السابقة مع أصحاب الأموال الحقيقيين، وأما البنك فقد كان بعيدا، كل البعد، عن هذه الأنشطة التي كانت السبب في الربح، فكيف يعقل، بعد هذا، أن يأتي البنك ويطالب بحصة من الربح؟!. ولذلك يمكن للمصرف أن يأخذ أجرا على العمل الذي قام به وليس ربحا؛ على اعتبار أنه ليس بصاحب المال ولا بصاحب العمل. ولكن قد يقول قائل ما هي الفتوى التي تستند عليها المصارف الحالية في الحصول على الربح؟ يوجد رأي للكاساني، وهو فقيه حنفي؛ حيث علق استحقاق المضارب الأول نصيبا من الربح على الصيغة التي يتلفظ بها رب المال أثناء العقد؛ فيما لو قال «إن ما رزق الله من الربح فهو بيننا نصفان»،. أو قال ما «رزقك الله»(ص49)
فإن تلفظ بالعبارة الأولى «فنصف الربح للثاني، ونصفه لرب المال، ولا شيء للمضارب الأول (المصرف)» ص 50
وإن تلفظ بالعبارة الثانية «فجميع ما شرط للثاني من الربح يسلم له، وما شرط للمضارب الأول (المصرف) من الربح يكون بينه وبين رب المال نصفين» ص 50. ولا يخفى على أحد خطأ هذا الرأي؛ إذ كيف يعلق استحقاق المصرف للربح على ما يتلفظ به صاحب رأس المال، وطبعا فلو تُرك لرب المال الخيار لكان قوله هو القول الأول، ولن يأخذ المصرف شيئا.
3. عرقلة نمو طبقة تجار الجملة. عندما يقوم المصرف بتمويل طبقة المزارعين أو طبقة الصناعيين، والحصول مقابل ذلك على منتوجاتهم وفق صيغة السلم، بالنسبة للمزارعين، أو صيغة الاستصناع، بالنسبة للصناعيين، يكون بذلك قد أصبح تاجر جملة، لا يستطيع أحد منافسته؛ بسبب المركز المالي الذي يتمتع به. ومعروف أن هذه الممارسة تؤدي إلى القضاء على طبقة تجار الجملة، سواء في ميدان الزراعة أو في ميدان الصناعة. ومعلوم أن طبقة تجار الجملة هي طبقة ضرورية؛ لأنها تعتبر الوسيط، المتخصص في تجارة الجملة، وتؤدي خدمات لا يستطيع غيرها أداءها، وبالتالي فإن القضاء عليها يعتبر قضاء على التقسيم الطبيعي للوسطاء التجاريين، ولنا في أوروبا مثال، حين تعترض على توقيف الإعانات التي تمنحها لمزارعيها بدعوى أن ذلك يؤدي إلى القضاء على طبقة المزارعين، ولا يمكن تصور مجتمع بدون مزارعين؛ لأن التطور الطبيعي للأنشطة الاقتصادية هو الذي أفرز هذه الطبقات الثلات (المزارعين، والصناعيين، والتجار)، ولا يمكن القول بإلغاء أحدهم.
4.تشتيت الجهود بين مجالات عمل غير متقاربة؛ فالمصرف الإسلامي بهذه الطريقة هو وسيط مالي، وتاجر جملة، ومستثمر. وتشتيت الجهود من شأنه أن يضر بالاقتصاد عن طريق ضياع فوائد التخصص؛ فلا تكون هناك فعالية في الوساطة المالية، ولا فعالية في الوساطة التجارية، ولا فعالية في الاستثمار.
الخاتمة
في ختام هذه الورقة، التي عالجت بشكل رئيس موضوع عمل المصارف الإسلامية القائم على أساس العمل التجاري في غالبه، والعمل الاستثماري في قليله والعمل الوساطي في أقل قليله. خرجت بمجموعة من النتائج، أهمها:
1. أن العمل الذي تقوم به المصارف الإسلامية، وهو التجارة، لا يتناسب مع تعريفها كمؤسسات مالية وسيطة.
2. أن المصارف الإسلامية، بتعاملها في التجارة، لم تبد أي تضامن مع المجتمع الذي يبحث عن مؤسسات تضامنية، من خلال المساهمة في تحمل مخاطر تمويل التنمية.
3. أن الوساطة المالية هي عمل متخصص، ويعود على الاقتصاد بجملة فوائد.
وبناء على هذه النتائج فتوصي الورقة بالآتي:
1. تعديل النظام رقم 2020ــ2 الصادر عن بنك الجزائر في تاريخ 15/ مارس 2020 ليقتصر على الصيغ التي تؤدي إلى قيام وساطة مالية فقط.
2. تخلي المصارف الإسلامية عن مكانتها كمؤسسة محايدة إلى مكانة تكون فيها مؤسسة متضامنة مع المجتمع لإحداث تنمية اقتصادية، وليس لمجرد تنمية قطاع التجارة.
3. تخلي المصارف الإسلامية عن الوساطة التجارية وتبنيها للوساطة المالية.
4. تخلي المصارف الإسلامية عن صيغة المضاربة المطلقة وتبنيها لصيغة الإجارة في تعاملها؛ سواء مع أصحاب الأموال أم مع المضاربين.
5. تخلي المصارف الإسلامية عن مبدأ اشتراكها في الربح، وتبنيها مبدأ الأجر.
6. دعوة الباحثين في الاقتصاد الإسلامي إلى إيلاء الوساطة المالية اهتماما أكبر، لمساعدة المصارف الإسلامية على الانتقال إلى العمل بها.
* أستاذ الاقتصاد النقدي والمصرفي في جامعة العربي بن مهيدي/ أم البواقي
البريد الإلكتروني : tlhilah@yahoo.fr

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com