عيدُ النصر

يكتبه د. محمّد قماري/
يعود شهر مارس هذا العام بمذاق خاص، إذ تترقب الجزائر دخول العقد السادس من استقلالها، وتذكرنا بأن الجيل الذي ولدوا في الجزائر بعد يوم التاسع عشر من مارس 1962، كل أولئك الأفراد قد أظلتهم راية الاستقلال، إذ يعتبر ذلك التاريخ خطًا فاصلاً بين عهدين وزمنين مختلفين، أو هكذا يجب أن يستشعر الجزائريون ذلك المعلم على خط الزمن…
وتعود ذكرى (يوم النصر) والطبقة الأولى من أبناء الاستقلال تدلف إلى الشيخوخة، فلم يبق إلا أيام معدودات تفصلنا عن دخول تلك الطبقة نهاية العقد السادس، وإذا كانت سيرورة أعمار البشر ممن كتبت لهم الحياة تؤول حتمًا إلى الشيخوخة، فإن حياة الأمم تتجدد عبر أجيالها فتكتسب قوة ونضارة، أو هكذا يجب أن يكون عليه الحال، فلا يجب ارتهان شباب الأمة في شيخوخة جيل من أجيالها…
ويعود التاسع عشر من مارس، ويضعنا أمام مرآة عاكسة لخط سيرنا، ومن الحكم المأثورة عند شعب الطغو: (إذا نسيتَ يومًا وجهة مسيركَ، فلا تنسَ من أينَ أتيْت)، فلقد أتينا من رحم ليل طويل، هو (ليل الاستعمار)، استعمار عمل طيلة قرن وثلث القرن على جعل هذا الشعب يرتدُ إلى دركات الحيوانات، أو كما سماها بحق الكاتب التونسي المولد ألبير ميمي (acculturation)، أي جعل الإنسان كائنا غير ثقافي وهو معنى مهذب للفظة الحيوان.
إنَّ المرآة العاكسة لترينا على نحو واضح تلك القوافل التي رفضت منطق الاستعمار، نكاد نرى الأمير عبد القادر وهو يعقد ألوية الجهاد، ونصعد مع الشيخ المقراني الجبال وننزل الوديان، ونتبع خطى بوبغلة ولالا فاطمة نسومر، ونشم ريح بارود بوعمامة ومن معه، ونستظل بعد قتال طويل في ظلال الواحات مع الشيخ أحمد بوزيان، ومضات سريعة أخاذة تظهر قوما (يَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ)…
حتى إذا ظنَّ القومُ أن الأرض قد دانت لهم، وأن هذا الشعب قد مات، جلجل صوت ابن باديس: (من قَالَ ماتَ فقدْ كذَب)، وقام يبرهن على وجود تلك الجذوة تحت ركام الرماد، فاشتعلت من جديد، واستوت على سوقها، فإذا بذلك الهدوء يتحوّل إلى جلبة وضجيجًا في أذن المستعمر، ثم إلى نداء واضح لا لبس فيه:
(يَا نشءُ أنتَ رجَاؤُنا * * * وبك الصباح قد اقتربْ)
ذلك لعمري هو الفهم الصحيح، فهم مبني على سنن حركيّة المجتمعات، ومتجاوزا لمنطق المراهنة على الجيل الحاضر أو فرد أو مجموعة أراد منه، إنه منطق تحقيق الأهداف بالمراهنة على (النشء) فالأمم الحيّة لا تشيخ ولا تموت، ما دامت أرحام الحرائر فيها تلد، وما دام فيها من يقوم على تقويم العقول وبعث روح الأمل والعمل، ومهما يكن رصيد الآباء ثريا وكبيرًا فإن التاريخ لن يرحمهم إذا ما انتهت أرصدتهم إلى أيدي أبناء وأحفاد لا يقومون على تنميتها وتعظيمها…
وتصل بنا المرآن العاكسة إلى منهاها عند اقتراب مفترق الطريق، وتبدو الصورة مزدحمة، ليس فيها موضع للفراغ، بلاد تتحرك وهتاف يبلغ عنان السماء: (حي على الاستقلال)، تدافعٌ كبير إلى ساحات التضحيّة، وشعارات تستدعي ماضي الأمّة العقيدي والثقافي، وكأن دوي نوفمبر يرد بعبارات نور ونار على فرية شارل العاشر وهو يودع طلائع جيوش الغزاة في أواخر ربيع سنة 1830: (سوف لن يكون للجزائر ربًا سوى المسيح)…
يعود شهر مارس محملاً بكل هذه المعاني، وأولها ميثاق جحاف الشهداء مع أمتهم: لماذا واجهتنا الاستعمار، ولماذا دفعنا أرواحنا في سبيل تحقيق تلك الغاية؟
ماذا تحقق من ذلك الميثاق الذي خطت أحرفه بالدماء، وكتبت عباراته بالأشلاء؟ وأين الخلل في استكمال بنود ذلك الميثاق؟ أعجزتم عن دفع ضريبة العرق وقد دفعنا ضريبة الدم؟
هذه تساؤلات تجد صداها في نفوس الشباب (النشء)، وهو يحاول أن يعبر عنها بصور مختلفة، يُحسن التعبير حينا وقد يخطئ حينا آخر، لكنه في كل الأحوال يدق جرس الانذار من واقع لا يرقى إلى معاني عيد النصر، ولا لعزة يوم النصر، ولا لكرامة حمل الشهداء من أجلها أرواحهم على أكفهم، عبر سنوات طويلة امتداد ليل الاستعمار، ومن طبيعة دماء الشهداء أنها تسري في عروق جديدة بعد تعجن بالتراب الذي يخرج منه رغيف الأجيال الصاعدة، فيرضعونه مع لبن أثداء أمهاتهم، ويأكلونه مع الغلات التي تخرجها أرضهم…
إن الفيلق الأول من جيل الاستقلال يسير بخطى حثيثة إلى (التقاعد)، ومن حق أبنائه أن يتسلموا المشعل ما دام الآباء قادرون على تسليمه ومعهم بقية من قدرة، ومن المحزن أن يتمنى الابن موت أبيه حتى يرثه!