تركـــة ابــن باديــــس
د. عبد الله شنيني */
غالبا ما تمر علينا مناسبات أو أعياد وطنية بلا ضجيج، وأحيانا تنبجس من وسط الهدوء الاحتفالي إشارات أو إعادة قراءة أو مواقف مستجدة تلقي بظلالها وارتداداتها على السياق العام للاحتفال. ولقد شهدنا هذا في أكثر من مرة، خاصة في المناسبات التي لها صلة بتاريخ ثورة التحرير وأحداثها والشخصيات التاريخية الفاعلة فيها وبعدها، وهذا عادي بالنظر إلى تفشي روح إعادة القراءة والفحص التي أصبحت تتزايد يوما بعد يوم، سواء في الأوساط الأكاديمية أو حتى لدى عموم المشتغلين على هذه القضايا من الإعلاميين أو بعض الشخصيات السياسية التي لها صلة أو حساسية بطريقة أو بأخرى من هذه القضايا، لذلك تحولت هذه الأحداث والمناسبات إلى أرضية أو منصة تنطلق منها استقطابات ثقافية أو إديولوجية أو حتى سياسية لها علاقة بالراهن، مما يحول تلك الاستقطابات إلى إسقاطات مباشرة لمشاكل هذا الراهن واختلالاته على تلك الأحداث التاريخية من أجل استثمارها أو الطعن في الروايات “الرسمية” لها أو عرضها لإعادة إنتاجها من جديد أو غير ذلك.. المهم إننا الآن بدأنا ندخل مرحلة تقييم الأبناء والأحفاد لمسيرات الآباء والأجداد، وكلما طال البعد بين الجد والحفيد كان لآخر حفيد أدوات ووسائل قراءة جديدة، أهمها انكشاف ما حرص الآباء على إخفائه على أبنائهم حفاظا على تماسك الأسرة ودرءا للفتة، ويساهم أعداء هؤلاء الأجداد في كشفه، أو ما همس به الأجداد أنفسهم في آذان أبنائهم في لحظات سكرات الموت من باب (خليها عندك وما تعاودهاش لحتى واحد). أو حتى ما يقوله الحاسدون هنا وهناك من باب (خليها تخلا عليهم الله لا يخلي لوارث واش يورث).
هذا هو المشهد الذي أصبح يتكرر في كل مناسبة أو عيد وطني..
ولعل يوم العلم الذي يصادف السادس عشر من أفريل من كل سنة قد دخل على الخط كقطعة أرض كان جعلها الآباء وقفا للفقراء والمساكين وطلبة العلم بما يعود بالأجر على جميع الورثة ولكن للأسف نسوا تدوين ذلك.. فأصر بعض الورثة على إدخالها إلى أصل التركة ليعاد تقييمها كذلك، حيث بدأ الاستقطاب من حولها يتزايد بين من يصر على إبعادها عن الإرث الذي يجري الجدل حوله لتبقى على صفتها الأولى وبين من يعتبرها جزءا مما يجري تقييمه.
هذه الإشارة الرمزية تلخص تهافتنا الحالي على جعل كل شاردة وواردة في تاريخنا القريب والبعيد قضية أساسية ينبغي تحديد مواقف واضحة منها في زحام من الخطابات المتصارعة التي تعمل بصورة مباشرة أو غير مباشرة على تقويض أية أرضية جديدة يمكن لنا أن ننظر من خلالها إلى مستقبل مشترك خال من القنابل الموقوتة التي قد تنفجر في وجوه الجميع.
إن جمعية العلماء المسلمين بالنظر إلى السياق الذي نشأت فيه وبكل بساطة حاولت أن تعيد عموم الجزائريين إلى مرحلة الكتابة بعدما عمل الاستعمار على إعادتهم إلى المرحلة الشفوية ومرحلة ما قبل العمران وربما إلى ما قبل اكتشاف النار، وبالعودة إلى أرشيفها المكتوب أو إلى تراثها المرتبط بالمدارس الحرة في عموم القطر الجزائري والمعاهد في قسنطينة وتلمسان نضع اليد على المهمة الأساسية التي نهضت بها هذه الجمعية في ظرف صعب بعدما خلا الجو تماما للمنظومة الاستعمارية ثقافيا وقانونيا ولغويا في بداية القرن العشرين إثر انقطاع الثورات الشعبية الجزائرية في عموم الجزائر. إنها مهمة التعليم المقاوم للتعليم الرسمي الفرنسي في الجزائر، هذا التعليم الذي يبدأ بالتهجي ( أي القدرة على معرفة الحرف وقراءته) ثم كتابته وصولا إلى تلقي معارف بسيطة من خلاله وانتهاء بتكوين شخصية جزائرية مفارقة للشخصية الفرنسية وللنموذج الجزائري المراد صنعه فرنسيا. ثم ترك هؤلاء المتعلمين أحرارا يعودون إلى بواديهم وقراهم جزائريين عاديين من نسيج ثقافة أهلهم داعمين لبني جنسهم بما حصلوا عليه من معارف لغوية ودينية، وهذا ما دأب عليه هؤلاء الفتية والفتيات خريجو مدارس جمعية العلماء بعد ذلك وخلال الثورة نفسها، واستمرت الاستفادة منهم بعد الاستقلال حيث كان التعليم تحديا كبيرا للدولة الفتية المستقلة حديثا. أقول أيضا الفتيات المتعلمات اللواتي كن يغنين الأناشيد ويمثلن المسرحيات التربوية البسيطة في مدارس جمعية العلماء هن اللواتي شكلن النواة الأولى للمعلمة الجزائرية بعد الاستقلال.
لم تكن جمعية العلماء المسلمين حركة سرية أو نظاما حركيا مغلقا بإديولوجية صارمة، بل كانت فضاء تعليميا من صميم الشعب عمل على تخليص أبناء الجزائريين من التيه الذي كان ينتظرهم ممزوجا بالفقر والاستغلال، وجعلهم متعلمين أحرارا يمارسون حياتهم كغيرهم من الجزائريين بلا بيعة سرية أو مشيخة ملزمة أو نسق دوغمائي يتميزون به عن عموم الجزائريين، فمنهم الفلاح والتاجر ومعلم القرآن وكل شرائح المجتمع بما في ذلك الذين انضموا فرادى إلى الثورة تحت لواء جيش وجبهة التحرير لا كفصيل يمثل حركته في داخل جسم الثورة، ولذلك فإنه من التعسف تحميل هذه الجمعية أعباء إديولوجية من طرف بعض من يعيدون النظر في ميراثها، كالذين يعتبرونها حركة سلفية كالسلفية الحجازية في ذلك الوقت مع الاختلاف الواضح في منهجها وهدفها عن سلفية الحجاز، أو من يعتبرها ذات إديولوجية عروبية كتلك التي ظهرت مع الثورة العربية في الحجاز أيضا في بداية القرن العشرين واستمرت بقوة إلى أن وصلت إلى ذروتها في الخمسينيات والستينيات مشربة بنزعة يسارية كانت لها صدامات مع بعض الخصوصيات الثقافية في بعض البلدان العربية. والحجة هنا تركيز الجمعية على التعليم بالعربية، بل إن ما ورد في آخر النشيد المعروف لابن باديس “شعب الجزائر مسلم “. حين يقول” تحيا الجزائر والعرب” اعتبره البعض عروبي النزعة، ولكن هذا النص نفسه في سياقه كان موجها بصورة واضحة للاستعمار الفرنسي لتذكيره بأن الشعب الجزائري ليس فرنسيا ولا غربيا مستجلبا مع المعمرين. ونص ابن باديس لا يحمل في سياقه العام أي تفرقة بين الجزائريين، لأن الجميع يعرف أن ابن باديس أمازيغي الأصل ومقاله المعروف حول هذه القضية يدحض هذه الرؤية، فالشعب الجزائري مسلم له امتداد مختلف تماما عن تلك القراءة التي كرسها المستشرقون الفرنسيون لتاريخ الجزائر..
كما أنه من التعسف في حق هذه الجمعية إلحاقها من بعض من لهم خصومات مع الحركات الإسلامية أو ما يعرف بالإسلام السياسي حاليا وجعلها حركة إيديلوجية إسلامية، فيعمدون إلى نسف تراثها من داخل الجزائر. وهذه مقارنة ومقاربة خاطئة، لأن الحركة الإصلاحية الجزائرية لم تكن من نفس النسق الذي تشكلت منه الحركات الإسلامية في المشرق كحركة الإخوان المسلمين في مصر مثلا، أو الجماعة الإسلامية في باكستان أو غيرهما من الحركات التي شهدت تناميا وتطورا في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وكانت مرتبطة في أصل وجودها باستعادة الخلافة الإسلامية أو بإقامة الدولة االإسلامية.. هذا الفكر تطور في أوساط هذه الحركات بأقساط متفاوتة وكانت له ارتدادات اجتماعية وسياسية في كثير من البلدان الإسلامية ولم يكن هذا البعد الحركي من أدبيات جمعية العلماء المسلمين، ولا تصح هذه المقارنة، وهي غير منهجية ومجانبة للواقع والتاريخ.. وإذا جاز لنا أن نقارن جمعية العلماء المسلمين بغيرها من الحركات الإصلاحية أو نقارن شخص عبد الحميد بن باديس بغيره فهي قريبة من الحركة الإصلاحية التونسية التي خرجت من الزيتونة وعلى رأسها الشيخ الفقيه محمد الطاهر بن عاشور، والتي ركزت على العلم والإصلاح من داخل منظومة الإيمان بلا تصورات محددة حول مفهوم الدولة أو الدعوة إلى الخلافة، أو التركيز على أبواب الأحكام السلطانية في تعليم الناشئة.
وكذلك فإنه من التعسف تبني هذه الجمعية الآن من البعض والزج بها في صراعات داخل الجزائر وبين الجزائريين. وهذا حدث فعلا في نقاشات ثقافية متوترة استخدم فيها عنوان جمعية العلماء المسلمين لتبرير الهجوم على أشخاص بعينهم أو أفكار بعينها. إن جمعية العلماء المسلمين لم تقل يوما إنها دار للفتوى أو تمثل المؤسسة الدينية التي تضبط الشأن الديني في البلاد. إنها حركة إصلاحية تنويرية جمعت الجزائريين على حب العلم والتعلم وتعليم مبادىء الإسلام الصحيحة، وتجذيرها بين الجزائريين الإخوة المتحابين الذين لا يهزمهم عدو ولا يفرقهم معول فتنة أو هدم. هي أيضا ميراث رائع التفتح على المجتمع ومرافقته، ولها رصيد قوي في تاريخ الصحافة الجزائرية مع “الشهاب” و’البصائر ‘. وأيضا في الحوار بين الجزائريين (المؤتمر الإسلامي الذي ضم أغلب التوجهات الفكرية في الجزائر حينذاك).
وكذلك في العمل الجمعوي المنظم، وعلى الرغم من الارتباك الذي حصل في إعادة بعثها بعد الاستقلال بملامح واضحة، وعلى الرغم من السياقات التي مرت بها بعد ذلك والجهود التي تحاول إعطاءها مكانا أساسيا وواضحا الآن إلا أنها لا تزال تحتاج إلى استعادة شخصيتها الأساسية التي بها عرفت.
هذه هي تركة ابن باديس أيها الورثة.. اتركوها صدقة جارية للفقراء والمساكين وأهل العلم ولا تدخلوها في أصل التركة التي تتنازعون تقييمها في كل مناسبة.
• أستاذ جامعة تبسة