أضـــــواء علـــى العلمانيـــة
عبد العزيز كحيل/
مفهوم العلمانية: هي تيار فكري ثقافي فلسفي عبارة عن مجموعة من المُعتقدات خلاصتها أنّ الدّين لا علاقة له بالجوانب السياسية والاجتماعية في حياة الدولة، تحت مبدأ فصل الأمور السياسية والدينية عن بعضها، كما تطور المفهوم حتى أصبح يعني عند بعض المفكرين النظام الفلسفي السياسي أو الاجتماعي الذي يرفض أيّ شكل من أشكال الدين خارج دائرة الفرد وضميره، بعيدا عن جميع الشؤون المدنية المتعلقة بالدولة والمجتمع، مع التركيز على الجانب الماديّ للحياة دون الجانب الغيبي.
نشأتها: نشأت العلمانية في أوروبا- ابتداء من القرن السابع عشر – كحالة حياد تجاه الدين تقتضي الفصل بين الكنيسة (التي كانت مهيمنة على الحياة السياسية والاجتماعية لعدة قرون) وبين الدولة في كل وظائفها، وتعود أسباب ظهور العلمانية إلى عدة عوامل، أهماها:
– تأثير الكنيسة الكاثوليكية على الحياة السياسية والاجتماعية لدى الأمم الأوروبية تأثيرا دام قرونا وتميّز بالسيطرة المالية والسياسية والروحية والفكرية على الأفراد وأنظمة الحكم حتى فاقت سلطتها في بعض الأحيان وفي بعض الدول سلطة الملوك، وذلك بفضل امتلاكها لثروات طائلة ولسيطرتها على الحياة الفكرية بواسطة قراءة جامدة للنصوص الدينية بحيث تمنع أي تفكير حرّ أو اكتشاف علمي على أساس أن في ذلك مخالفة للكتاب المقدس، وكان هناك صراع قوي بين الكنيسة والعلم والعقل والإبداع، وهو ما أثار العلماء والمفكرين منذ عهد فولتير وروسو ومونسكيو وديدرو، فكتبوا ونظّروا ودعوا إلى الأفكار الجديدة وإثبات الإنسان لقدراته واستكشاف الكون، وبدأ الصراع مع الكنيسة ناعما ثم اشتدّ وانتهى بقيام الثورة الفرنسية التي أعلنت الطلاق بين الديني والدنيوي.
– ثورة البرجوازية – الطبقة المتوسطة آنذاك بين الأرستوقراطية الحاكمة (المتحالفة مع الكنيسة) والطبقة الكادحة – على فكرة الحكم الإلهي السائدة والتي يتولى فيها الملك السلطة بمباركة الكنيسة على أساس أن ذلك تمّ بإرادة الله فلا مجال إذًا لمنازعته مهما كانت الأسباب، بالاضافة إلى رفض هذه البرجوازية لفكرة الإقطاع السائدة والتي كانت لمدة قرون في صالح الكنيسة والملك.
– الحروب الدينية بين مختلف الكنائس المسيحية – خاصة بين الكاثوليكية والبروتستانتية – التي عمّت أوروبا وكانت حروبا دموية طاحنة كلها باسم المسيح وبسبب القراءات المتناقضة للكتاب المقدس، وكان الملوك كلٌّ مع الكنيسة التي تؤيده.
رأى المفكرون أن أفضل حلّ للخروج من هذه المشكلات المستعصية التي أغرقت أوروبا في التخلف والتقاتل هو فصل الدين عن الدولة ليكون شأنا شخصيا بينما تكون الدولة شأن المجتمع كله بغض النظر عن الانتماء الديني وعن تأثير الأفكار الدينية.
بناء على ظروف النشأة نرى أن العلمانية ليست موقفا عدائيا من الدين بل هي موقف حيادي منه، مع العلم أن الدين المقصود هنا هو المسيحية أو بتعبير أدق هو الكنائس المنتسبة للمسيح، وهذا التدقيق مهمّ جدا لأن المسيحية بحسب الكتاب المقدس شأن روحي فردي لا علاقة له بالحياة الاجتماعية ولا دخل له في شؤون السياسة والمال والتربية ونحو ذلك، إنما هي عقائد أخروية وأخلاق وروحانيات تخاطب ضمير الفرد فحسب، وهكذا فالعلمانية لم تعتدِ على المسيحية وإنما أعادتها إلى وضعها الطبيعي فأبعدتها عن ميدان التعليم العمومي والصلاحيات السياسية والإدارية، والعلماني بهذا المعنى ينتمي للشأن المدني لا الكهنوتي، فهو مستقل ومحايد تجاه الدين، ومازالت العلمانية في الغرب تقترب من هذا المعنى أو تبتعد عنه قليلا، فلا تعير الدين مكانة خاصّة ولا تناصبه العداء، فلا يضير هذا الدين شيء من الترتيبات العلمانية لأنه دين فردي يخاطب الروح ولا يعنى بالشأن العام، والعلمانية بهذا المعنى المؤسَس لا تعني الإلحاد لأن المسيحية بحسب مراجعها ليست فكرا بل هي روح، وليست دنيا بل هي آخرة، وبالتالي يستطيع الإنسان أن يكون «متديّنا» في قلبه وبيته وكنيسته من غير أن يكون لذلك أي تأثير على الحياة العامة ولا أن تحتاج إليه هذه الحياة العامة في أي من مجالاتها.
* مبادئ العلمانية: حين نشأتها قامت العلمانية على جملة من المبادئ، أهمّها:
1. حرية المعتقد واعتناق أي دين أو إنكار الدين.
2. استبعاد المؤثرات الدينية بجميع أشكالها عن الحياة العامة.
3. عدم تدخل الدولة ومؤسساتها في الشؤون الدينية للأفراد والكنائس، وعدم تدخل الكنائس في شؤون الدولة.
4. مساواة الأفراد في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الانتماء الديني.
* تطور العلمانية: ليست العلمانية ملة واحدة، فقد عرفت تطورات نظرية وميدانية عبر التاريخ والجغرافيا، فهناك العلمانية السياسية التي تسعى كما ذكرنا إلى التمييز بين العمل الحكومي والممارسة الدينية بحيث لا يتدخل أحدهما في الآخر، وهناك العلمانية الفلسفية التي تسعى إلى إحكام السيطرة على المنظومة الفكرية ولا تسمح لتدخل الدين برأي أو نقد في المجال الثقافي والفني والاجتماعي على أساس أن للدين مجالا واحدا هو الضمير ومكانا واحدا هو دور العبادة، وهناك العلمانية الاجتماعية التي انتهى إليها جانب من الفكر المسيطر على أوروبا والغرب، وهي تهدف إلى تقليص دور الدين في حياة الأفراد فضلا عن الحياة العامة.
هذا التطور أبرز عدة مظاهر تبيّن الفروق بين أنواع من الرؤى انبثقت من العلمانية الأصلية، ويمكن الإشارة بالتحديد إلى العلمانية الفرنسية من جهة وعلمانية بريطانيا وأمريكا وإسبانيا وبلجيكا مثلا من الجهة الأخرى، فهذه الدول الأخيرة لم تقطع علاقتها بالدين بل هو حاضر في المجال السياسي والاجتماعي بشكل من الأشكال، دروس الدين تلقى في المدارس الحكومية، نُسخ الكتاب المقدس حاضرة في المحاكم وعند أداء الرؤساء للقسم، بل ملكة بريطانيا هي راعية الكنيسة، الحكومة البلجيكية تعترف بالأديان وتتبنى النشاط الديني في المدارس، أما في فرنسا بالذات فالأمر يختلف لأنها أصبحت مصدر العلمانية العدوانية تجاه الدين، هي أقرب إلى الإلحاد والتضييق على الدين والتعامل معه بحدة وتوجس.
هكذا تطوّر مفهوم العلمانية فانتقلت – خاصة في فرنسا وعند عدد من المفكرين – من الوضع الأول إلى «رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجالاته لا تفصل فقط الدين عن الدولة وعن بعض جوانب الحياة العامة وإنما تفصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن كل جوانب الحياة العامة في بادئ الأمر ثم عن كل جوانب الحياة الخاصة في نهايته إلى أن يتمّ نزع القداسة تماماً عن العالم» كما يقول د. عبد الوهاب المسيري رحمه الله.
العلمانية في بلاد الإسلام: استفاد الغرب من الفصل بين الكنيسة والحياة العامة ولم يخسر إلا قليلا، لكنّ أطروحاتها لم تنجح في البلاد الإسلامية رغم التبشير وحتى رغم فرضها بالقوة، لماذا؟ ببساطة لأن الإسلام غير المسيحية، فلا وجود عندنا لكنيسة تحتكر الدين ولا لكهنوت ينطق باسم الله، ولم يعرف تاريخنا صراعا بين الإسلام والعلم، ولا اصطف الإسلام مع نظام الحكم والإقطاع ضد الجماهير ولا ضد العلماء والمفكرين، وقبل كل هذا لا ينفك الإسلام عند أتباعه عن كونه نظاما شاملا متكاملا للحياة يسيّر شؤون الدنيا والآخرة والروح والمادة سواء.
وللعلمانية مشتقات: إذا كانت العلمانية أو اللائكية تعلن عن نفسها واسمها وحقيقتها بكل وضوح في العالم الغربي فإنها في العالم الإسلامي تجنح إلى أسماء أخرى أقل حساسية على فضاء يتوجس من كل ما يخدش التصوّر الديني، لذلك اختارت اسم الليبرالية خاصة في مصر والخليج، واسم الديمقراطية والجمهورية في المغرب العربي- في المجال السياسي- واسم الحداثة في المجال الأدبي والفني، وسمّت خطابها بالمدني تمييزا عن الخطاب الديني.
الخطاب المدني: يرى الخطاب المدني أن الحداثة حركة نهضوية في مقابل حركات هوية عدمية تنشط ضد الحضارة والمدنية والتحديث والرقي، لا تملك سوى أدوات الممانعة ومقاومة التغيير، لكنه خطاب موغل في الجانب المادي الدنيوي إلى درجة إهمال الجانب العقدي والأخروي إهمالا نهائيا، وهو ما يتقبله الإنسان الغربي لكن لا يستسيغه الإنسان المسلم ومحيطه.