مقالاتُ الإســـلاميين…

يكتبه د. محمّد قماري/
هناك حكمةٌ دارجة على ألسنة الناس تقولُ: (رُبَّ ضارةٍ نافعَة)، ولعل من الأضرار التي عمت بها البلوى طيلة الأشهر الماضيّة وباء كورونا، إذ أضحى نعيُ الموتى يتردد في كل مكان، وتعطّلت مصالح أفراد وجماعات ودول، لكن الوباء له جانب نافع في لجم تيار نفسي جارف لازم البشر، تيار حب (التكاثر) والركض المحموم وراء الماديات، واللهاث الذي لا تنقطع أنفاسه في اكتنازها…
ذلك وجه من وجوه نفع الوباء، لا ريب فيه، فلقد فرمل الوباء من شدة ذلك الاندفاع، غير أن وجهًا آخر قد ظهر ربما ليس بوضوح ذلك الوجه السابق، وقد يخفى عن عامة الناس، ذلك هو وجه (دكتاتورية) المؤسسات العلميّة، وهي تضيق ذرعًا بالرأي المخالف، والتأويل غير النمطي لسير الوباء، ونقصد به ذلك التحالف الذي جابهت به تلك المؤسسات رأي رجل من كبار المتخصصين في الأوبئة وهو البروفيسور (ديدي رؤول)…
ذلك الرجل العالم الذي ساق أدلة تفسر سير الوباء على غير منهاج سلطة (الدكتاتورية)، فلم يلق إلا السخرية حينًا والتهديد المُبطن حينا آخر، وملخص القضية أنه لا يجوز الخروج عن الإطار الدولي في الفهم والتأويل، وبغض النظر عما إذا كان الرجل محقًا فيما ذهب إليه أو مخطئًا، فإن ذلك يجعلنا نتأمل في قضية حظر الاجتهاد مع وجود اجماع ملزم من (أمة) أهل التخصص…
فإذا ما رجعنا إلى ديننا الإسلامي، وجدنا من يدعو إلى هدم الجدران ونسف الأسس باسم حرية الاجتهاد تارة، وحرية التعبير تارة أخرى، وأن اجماع الأمة المترسب عبر قرون طويلة غير ذي قيمة، وأن ذلك العلم (المنهجي) في التعامل مع نصوص هذا الدين وهو علم (أصول الفقه) غير مجدي، فإذا رفع مسلم عقيرته في الدفاع عن دينه فهو (إسلامي) أو (إسلاموي) متعصب!
والحقيقة أن مصطلح (إسلامي) أصبح مزعجًا، فلفظ “إسلامي” أو “إسلاميين” لم يرد سواء بحسبانه صيغه نسب لمفرد أو جماعه من البشر في القرآن أو السنة أو أقوال الرعيل الأول من المسلمين، وإنما ورد لفظ مسلم ومسلمين، قال الله تعالى: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ) (الحج/78)…
وإذا كان بعض العلماء المسلمين في مراحل تالية لعهد الجيل الأول، قد استخدم مصطلح (إسلاميين)، فإنهم قد استخدموه بدلالات غير دلالاته المعاصرة، ومن هؤلاء العلماء الإمام ابو الحسن الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)،حيث عنى بالإسلاميين كل فرق وطوائف المسلمين، بما في ذلك الفرق التي تختلف عن أهل السنة والجماعة، مثل الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة، وكان تركيزه على المذاهب الاعتقادية (الكلامية) المختلفة لهذه الفرق، وهي دلالة غير دلالة المصطلح المعاصرة…
ومصطلح إسلامي وإسلاميين لم يتم استخدامها بدلالاته الحديثة في المجتمعات المسلمة إلا في العصور الحديثة بعد ظهور الاستعمار، من هذه الدلالات استخدام المصطلح الذي يقابله في اللغات الغربية (islam) في نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر في الموسوعة البريطانية بمعنى المستشرق أي الباحث الغربي المتخصص في الدراسة المجتمعات الإسلامية…
وزائدة (iste) تأتي في تلك اللّغات وتلحق بجذر اسمي لتحدد أو تصف شخص مرتبط بمذهب أو دين (isme) ومن (islamisme) نحت وصف (islamiste)، والذي تمَّ تعريبه بـ(الإسلامي)، وفي هذا العصر تطلق على فئة من الناس حاولت إحياء بعض المظاهر المميزة كإطلاق اللحية ولبس القميص على اعتبار أنها من مظاهر الإسلام، مع الحرص على إحياء مظاهر التدين، هذا في جانب السلوك الظاهر…
ثم بمحاولة فهم ومدارسة النصوص الشرعيّة، ومحاولة الالتزام بها مع إحياء بعض السنن، كل ذلك مع إبداء التميز عن المظاهر الغربيّة، سواء على المستوى الفكري أو السلوكي، وبطبيعة الحال فإن ذلك النهج أثار حفيظة (غلاة) التغريب، الأمر الذي أحدث اشعال خطوط تماس بين الفصيلين كانت مؤسفة في بعض الأحيان، جعل بعضم يسم (كل) هؤلاء بالتطرف حينًا وبالإرهاب حينا آخر…
وظهر بالمقابل مصطلح (الإسلام التقليدي)، وهي تلطيف لوضع يكون فيه المسلم (متحللاً) من كل تكاليف الإسلام على المستوى الفكري والنفسي والروحي والسلوكي، أو في أحسن الأحوال أن يمارس بعض(الطقوس) الروحية، ويتجاوز ما وراءها من تكاليف…
إن أخطر ما عند هذه الفئة الأخيرة هو (تطرفها)، إذ في كل العصور كان هنالك مسلمون مقصرون في القيام بواجباتهم، لكنهم لا يعيبون على الملتزمين التزامهم، أو يبحثون لعدم التزامهم وعثراتهم السلوكية أو الفكرية عن مسوغات باسم (الحرية) مرة، وتطويع نصوص الشريعة مرة أخرى لتتماهى مع أوضاعهم وسلوكاتهم…
فالإسلام الذي ضمن حرية (المعتقد)، هو الإسلام الذي رفض كتابه منطق (التشظيّة) لنصوصه: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (البقرة/85).