الرئيس ماكرون يتقدم خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح
أ. عبد الحميد عبدوس/
جاء اعتراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الثلاثاء 2 مارس 2021 بمسؤولية الدولة الفرنسية عن اغتيال الشهيد علي بومنجل بمثابة خطوة صغيرة ولكنها مهمة في طريق معالجة ملف الذاكرة وتحقيق المصالحة التاريخية بين الشعبين الجزائري والفرنسي، هذا الاعتراف الفرنسي الرسمي رحبت به الجزائر وعبرت عن ارتياحها لصدوره عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
من اللافت للانتباه أن يأتي الاعتراف الفرنسي بالأسباب الحقيقية لاستشهاد المحامي والمجاهد علي بومنجل في شهر مارس الذي يصادف الذكرى الرابعة والستين لحادثة اغتياله في 23 مارس 1957 على أيدي الجيش الفرنسي، ويأتي كذلك بعد 21 سنة على اعتراف الجنرال السفاح بول أوساريس رئيس قسم الاستخبارات الفرنسية في الجزائر العاصمة، الذي أقر في عام 2000 في مقابلة مع صحيفة (لوموند) بمسؤوليته عن قتل الشهيد علي بومنجل، واعترف بأنه: «أمر بنفسه أحد مرؤوسيه بقتل بومنجل وتصوير الجريمة على أنها انتحار». ثمّ وثق اعترافاته البشعة في كتابه الذي صدر عام 2001 تحت عنوان: (الأجهزة الخاصة. الجزائر 1957-1955) حيث أكد أن الشهيد علي بومنجل تعرض للتعذيب لمدة شهر قبل أن تتم تصفيته برميه من الطابق السادس من إحدى العمارات بحي الأبيار والادعاء بأنه انتحر.
لم يكن الشهيد علي بومنجل هو الوحيد من أبناء الجزائر البررة الذين ارتقوا للشهادة في شهر مارس الذي يعرف في التاريخ الجزائري بأنه (شهر الشهداء) فقد استشهد فيه قادة كبار ساهموا في تحضير الثورة وتفجيرها وقيادتها كالعقداء: مصطفى بن بولعيد، العربي بن مهيدي، عميروش آيت حمودة المدعو سي عميروش، أحمد بن عبد الرزاق حمودة المدعو سي الحواس، دغين بن علي المدعو العقيد لطفي… وهم مجرد عينة مضيئة لمليون ونصف مليون شهيد ـ عليهم -رحمة الله ورضوانه – وفي المقابل فإنّ الجنرال أوساريس لم يكن القائد الفرنسي الوحيد الذي مارس التعذيب والقتل والإعدامات دون محاكمة ضد الثوار الجزائريين، بل كان منتوجًا استعماريًا بغيضًا في نظام ارتكب أبشع الجرائم طوال 123 سنة في حق الشعب الجزائري بكلّ فئاته، غير أنّ أوساريس كان من قادة الاستعمار القلائل الذين امتلكوا شجاعة الاعتراف بجرائمهم وجرائم النظام الذي كانوا يعملون تحت توجيهاته، ففي أحد تصريحاته قال الجنرال بول أوساريس: «علموني أن أقتل دون أن أترك أثراً، علموني أن أكذب وألا أبالي لا بعذابي ولا بعذاب الآخرين»، وفي كتابه المشار إليه آنفا وصف الممارسات الوحشية للاستعمار الفرنسي بأنها: «لم تكن مجرد انتهاكات يتحمل مسؤوليتها العسكريون المنخرطون في المواجهات على الأرض، بل إنها كانت تحظى بتغطية من قبل المسؤولين السياسيين في فرنسا، لاسيَّما من قبل وزير العدل آنذاك الرئيس الراحل فرانسوا ميتران. ويؤكد أوساريس أن التعذيب والإعدامات السريعة وقتل المدنيين التي تقدم لاحقاً على أنها «أعمال انتحارية» كانت من الممارسات الشائعة لدى الأجهزة الأمنية الفرنسية في الجزائر عند التحاقه بها عام 1955».
لقد قال الرئيس إيمانويل ماكرون: «إنّ بلاده لا يمكنها التسامح أو التغطية على أي جريمة أو فظاعة ارتكبها أي كان خلال الحرب الجزائرية» ولكنه ظل متمسكا يرفض الاعتذار عن الماضي الاستعماري إذ أعلن مكتب الرئيس الفرنسي ماكرون في جانفي الماضي(2021) أنه: «لن يكون هناك توبة ولا اعتذار» عن الماضي الاستعماري، بل إن الدولة الفرنسية تعمدت في سنة 2005 إصدار قانون لتمجيد هذا الاستعمار المليء «بالجرائم والفظائع».
ولا مراء في أن الرئيس ماكرون هو أول رئيس فرنسي يعترف بمسؤولية الدولة الفرنسية عن اغتيال بعض زعماء الثورة الجزائرية، وباعتراف الرئيس ماكرون بمسؤولية فرنسا باغتيال الشهيد علي بومنجل يكون قد بدأ في تطبيق توصيات المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا المولود في مدينة قسنطينة بالجزائر عام 1950، أي قبل أربع سنوات من اندلاع ثورة أول نوفمبر التحريرية المجيدة الذي كلف من طرف الرئيس ماكرون بإعداد تقرير الذاكرة، وقام بالفعل بتسليم تقريره للرئيس الفرنسي في جانفي2021 الذي تضمن22 توصية حيث نصت التوصية الرابعة من التقرير «على اعتراف فرنسا باغتيال المحامي علي بومنجل، صديق رينيه كابيتانت والزعيم السياسي للقومية الجزائرية، الذي قُتل خلال معركة الجزائر في عام 1957، وهي مبادرة ستتبع إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون بشأن موريس أودين في سبتمبر 2018».
تقرير بنجامين ستورا اعتبرته الحكومة الجزائرية على لسان الناطق الرسمي باسمها عمار بلحيمر وزير الاتصال أوضح وزير الاتصال الناطق الرسمي للحكومة عمار بلحيمر بأنه: «جاء دون التوقعات ولم يكن موضوعيا، إذ يساوي بين الضحية والجلاد وينكر مجمل الحقائق التاريخية»، كما أكد بلحيمر: «أن التنظيمات والخبراء والجامعيين والشخصيات الوطنية بل حتى بعض النزهاء الفرنسيين أجمعوا على رفض تقرير ستورا».
ترحيب الجزائر باعتراف الرئيس الفرنسي يعني أن الرئيس ماكرون، ورغم كل الظروف الشائكة في محيطه الفرنسي قد اقترب بخطوة من مطلب الجزائر الباحثة عن الحقيقة وإنصاف ضحايا جرائم الاستعمار والخروج من منطق الانكار الذي ظلت الدولة الفرنسية متمسكة به بخوص ماضيها الاستعماري في الجزائر. وما أقدم عليه إيمانويل ماكرون بإنهاء كذبة ظلت متداولة في الرواية الرسمية الفرنسية لمدة 64 سنة ليس بالشيء الهين في ظل ضغوط لوبيات الحنين إلى الماضي الاستعماري، وأدبيات الأحزاب الفرنسية اليمينية العنصرية المتطرفة التي رفضت خطوة الرئيس ماكرون ونددت بها. فقد قالت زعيمة حزب (التجمع الوطني) اليميني المتطرف، مارين لوبان: «إن الرئيس ماكرون باعترافه الأخير حول اغتيال الشهيد على بومنجل بعث رسائل وإشارات كارثية حول الاعتذار والتوبة، تغذي الانقسام وتزيد الكراهية».
وللتذكير فقد ولد الشهيد علي بومنجل في 24 ماي 1919 في غليزان، في أسرة مثقفة حيث كان والده مدرساً، وأخوه أحمد محامياً، بعد حصوله على شهادة البكالوريا بدرجة امتياز، توجه لدراسة الحقوق في الجامعة وعقب نيله لشهادة الليسانس في الحقوق من جامعة الجزائر، مارس مهنة المحاماة حيث أصبح محامياً معتمداً لدى المجلس، انضم لحزب الشعب الجزائري عند تأسيسه، ثم اختار في أفريل 1944 حركة (أحباب البيان والحرية) التي أسسها الرئيس الراحل فرحات عباس وأصبح محرراً في جريدة (المساواة) التي كانت تصدر باللغة الفرنسية. وبعد الحرب العالمية الثانية انخرط في الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري في سنة 1946، ثم واصل نضاله السياسي في حزب جبهة التحرير الوطني. عرف عنه بأنه كان سفيرا للقضية الجزائرية وممثلا للثورة التحريرية بالخارج، تم إلقاء القبض عليه في 08 فيفري 1957 في بلكور. وبقي في قبضة وحدات المظليين الفرنسيين والتي سلطت عليه أقسى أنواع التعذيب النفسي والجسدي لمدة 43 يوماً، وبسبب صموده وشجاعته ورفضه الادلاء بأية اعترافات لمعذبيه من جنود الجنرال السفاح بول أوساريس، قاموا في يوم السبت 23 مارس 1957 بإلقاء الشهيد علي بومنجل من الطابق الخامس لإحدى العمارات الكائنة بالأبيار في العاصمة، وتمّ دفن جثمانه بمقبرة سيدي أمحمد ببلكور (حي بلوزداد حاليا) بعد ثلاثة أيام من اغتياله والادعاء بأنه انتحر. وهي الكذبة التي تم تفنيدها من طرف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد64 سنة من وقوع الجريمة.