الويل لأُمَّة يقودها التافهون، ويُخزى فيها القادرون
أ. لخضر لقدي/
الحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان، ولا يَنْتَطِحُ فيها عَنْزانِ: أن الذين لا يقرأون التاريخ محكوم عليهم أن يعيدوه أكثر من مرة، وأن يلدغوا من ذات الجحر مرة ومرتين.. بل وألف مرة.
والبيئات التي تستمتع بمقادير كبيرة من الحرية، تنضج فيها الملكات، وتنمو فيها المواهب العظيمة، والأمة التي لا تأخذ برأي من تثق في صحة رأيهم لما لهم من فطنة ورجاحة في العقل، وصدق في الحدس، وسداد في الرأي، وشدّة في القول، ويحسنون النقد البناء والحوار المثمر والتحليل السليم… تكون عاقبتها خسرا.
ونحن نعيش في أحضان أنظمة تُغَيِّبُ أهل الرأي والمشورة وأصحاب الكفاءات فهم ما بين تهميش وسجون ولا يبالي بهم أحد، وتُقَدِّمُ أهل النفاق والتملُّق والدناءة، بينما الأمم المتقدمة تؤسس مراكز للدراسات والأبحاث والاسترتيجيات، وتسمع لخبرائها وتنزل عند آرائهم، وتشارك في صنع القرار إن لم تكن هذه المراكز من تصنع القرار، وهذه المراكز هي أحد أهم مقومات تقدم تلك الأمم.
ويكفي أن تعرف أنه يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية ما يقارب ألفي (2000) مركز دراسات بحثية في مختلف الاختصاصات.
ونحن أمة لها مشاغلها ومشاكلها وهمومها، ومما يؤسف له أن قادتنا (قادة الرأي أو قادة الحكم) مشغولون بمصالحهم ونزواتهم وشهواتهم، فلماذا نستغرب الخيبات ونستبعد الفشل.
كان لقيط بن يعمر الإيادي الشاعر الجاهلي يعمل في ديوان كسرى الذي أمره بأن يكتب كتابا لقومه يطمئنهم فيه إلى نوايا كسرى تجاههم ويخفف من حدّة العداء والتوتر بينه وبينهم.
غير أن لقيطاً عرف حقيقة المؤامرة وخبث كسرى فكتب قصيدته المشهورة إلى قومه، يحذرهم ويستنهضهم، ويعيب عليهم ركونهم إلى الرخاء والرفاهية واللامبالاة بينما طبول الحرب تدق قربهم وعدوّهم يتحيّنهم:
أَبْلِغْ إِيَادًا وَخَلِّلْ فِي سَرَاتِهُمُ * إِنِّي أَرَى الرَّأْيَ إِنْ لَمْ أُعْصَ قَدْ نَصَعَا
يَا لَهْفَ نَفْسِيَ أَنْ كَانَتْ أُمُورُكُمُ * شَتَّى وَأُحْكِمَ أَمْرُ النَّاسِ فَاجْتَمَعَا
إلاّ أن قبيلة إياد اختلفت على نفسها، ولم تسمع نصائح لقيط فغزاهم كسرى وأوقع بهم دماراً.
وتذكر صفحات التاريخ أن حذام بنت الريان بن خسر بن تميم نبهت وحذرت قومها وذلك أن عاطس بن الجلاح الحميري صار إلى قومِها في جموعٍ فاقتتلوا، ثم رَجِعَ الحميري إلى معسكره وهرب قومُها، فساروا ليلتهم ويومهم إلى الغد، ونزلوا الليلة الثانية، فلما أصبح الحميري ورأى جلاءهم اتبعهم، فانتبه القطا (طائر) من وقع دوابهم، فمرت على قوم حذامِ قِطَعاً قِطعاً، والعرب معروفة بالفطنة واستنباط الأخبار من تصرفات الحيوان، فخرجت حذامِ إلى قومها فقالت:
ألا يا قَومَنا ارتَحِلُوا وسِيرُوا * فَلو تُرِكَ القَطَا لَيلاً لَنَامَا.
فقال زوجها الشاعر لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل:
إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا * فَإِنَّ القَولَ مَا قَالَتْ حَذَامِ .
فارتحلوا حتى اعتصموا بالجبل، ويئس منهم أصحاب عاطس فرجعوا… ونجا قومها.
ومن الأبيات التي حفظناها صغارا بيتا للشاعر الجاهلي دُرَيد بن الصّـمَـة، وكان شاعرا أدرك الإسلام، وظل عنيدا ولم يسلم، حتى قُتل يوم حُنَين وعمره مائة، في قصة تدل على شجاعة غريبة وعجيبة:
أمرتهمُ أمري بمُنْـعَرَج اللِّوى * فلم يَستبينوا النصح إلاّ ضحى الغدِ
وهذا البيت من قصيدة يرثي بها دريد أخاه عبد الله، وكان هذا قد غزا قبائل غطَفان، وساق أموالهم، ولما ابتعد قليلا طلب من جماعته أن ينزلوا إلى (منعَرَج اللوى)، فقال له دريد: ناشدتك الله ألا تنزل، فإن غطفان ليست غافلة عن أموالها، فأبى عبد الله، ولم يقبل النصح، فكانت نهاية المعركة مصرع عبد الله.
وهذا موقف مؤثّر حزين وقفه علي كرم الله وجهه مقرّعا من خذلوه: «يا أشباهَ الرّجال ولا رجال! يا طَغامَ الأحلام، ويا عقول ربّات الحِجال، والله لقد أفسدتم عليّ رأيي بالعِصيان، ولقد ملأتم جوفي غيظاً، حتى قالت قُريشٌ: ابن أبي طالب رجلٌ شُجاع، ولكن لا رأيَ له في الحرب، لله درّهم، ومن ذا يكون أعلم بها منّي أو أشدّ لها مراساً ! فوالله لقد نَهَضْتُ فيها وما بلغتُ العشرين، ولقد نيّفتُ اليومَ على السّتين، ولكن لا رأيَ لمن لا يُطاع، يقولها ثلاثاً».
أتفكّر في حال قومي، فأجد أوجه التشابه كثيرة فنحن منغمسون في الكذب واللهو والتدجيل، نردد الأغاني ونتمنى الأماني، ونكذب ثم نصدق الكذبة، ونتمنى أن يغير الذئب جلده، وما زال منا من يصدق الكاذب.
وكما قال الجنيد رحمه الله: الإنسان لا يُعاب بما في طبعه، إنما يُعاب إذا فعل ما في طبعه… وهؤلاء جربناهم مرارا وتكرارا، فوجدنا من طباعهم الكذب وإخلاف المواعيد وإدامة الفساد.
ودور المثقف أن لا يجامل في شأن الوطن وأن لا يختار طريقا حائدا عن الحق، وأن لا يكون منفصم الشخصية ينتقد ويحلل عندما يكون بعيدا عن المسؤولية فإذا تولاها تنعم برشاويها ودافع عن باطلها وسكت عن إفكها وكان أجبن من أن يتصدى لإصلاحها من الداخل.