الرؤية الأسلوبية عند نور الدين السّد
د/ عاشور توامة/
”العلم مُتع…” كما قال: (نتشه) ولعل هذا ما ينطبق على محاضرة ماتعة، كنت قد حضرتها بكل تفاصيلها ودقائقها؛ قدّمها الأستاذ الدكتور نور الدين السّد في مدينة بوسعادة يوم 21 أكتوبر عام 2017م، بناء على دعوة من إدارة ملحقة مكتبة المطالعة عبد القادر دلاوي ببوسعادة؛ والوثبة الثقافية للإبداع حول تقديمه عن فحوى كتابه: ”الأسلوبية وتحليل الخطاب” الصادر في جزءين عن دار هومة بالجزائر العاصمة عام1997م، حيث أدار هذا اللقاء العلمي المميز الدكتور عبد القادر العربي الأستاذ المحاضر بجامعة المسيلة، والذي قدّم الباحث نور الدين السّد سيرة ومسيرة؛ ضاقت بها الأسطر القليلة لتسفر عن قامة ثقيلة لها وزنها الوطني وحضورها العربي والدولي…
الحقيقة أنها محاضرة قمّة في التألق وروعة الفكر وقوة التأثير وأسلبة الوعي، بدأها المحاضر الموسوعي نور الدين السّد ومشرفي على رسالة الدكتوراه في النقد المعاصر كما عهدته بسيطا في أسلوبه، ماهرا في أدائه، راقيا في علمه، مبدعا في فكره، مقنعا في حجيته، متواضعا بأخلاقه، متناغما مع جلسائه، متندرا في معظم وقفاته، منطلقا من واقعه حيث فرّق بين الأسلوب كخطاب ذاتي والأسلوبية كعلم موضوعي، ثم تحدث عن الإرهاصات الأولى لعلم الأسلوب في العهد اليوناني الأرسطي وقضية الأسلوب الحكيم ونظرية التطهير، وعند العلماء العرب القدامى لاسيما عبد القاهر الجرجاني، وكيف استثمر أدوات البلاغة العربية المعيارية في النظم في كتابه الأثير: (دلائل الإعجاز) بشيء من الوصف والتحليل والتفسير، وكيف كان متحررا من ربقة البلاغة الجاهزة؛ وداعيا إلى إثارة القضايا الفكرية المتصلة بـ (النظم) لاسيما في آي القرآن الكريم، وبالأخص قضية اللفظ والمعنى والفصل فيها، وقضية المواءمة والتناسب بين اللفظ ومعناه، ولعل هذا الوصف والتحليل والتفسير هو ما يؤكد بروز بوادر الأسلوبية في الدرس البياني العربي، وإبعاد تُهم الجمود والركود والقالبية عن بلاغتنا العربية الآسرة، إلا أن هذه المؤشرات المنهجية في التحليل الأسلوبي بقيت فردية؛ ولم ترق لتكون منهجا فكريا أسلوبيا أو علما قائما بالأسلوبية كما هو عليه في الدرس النقدي المعاصر.
تطرق الأستاذ نور الدين السّد إلى تمظهرات الأسلوب لدى الطبقات والأفراد، وبروزه كعلم مستقل عن الألسنية من حيث فعل الأداء الكلامي الفردي في رصد وقائع التعبير؛ وبواعثه النفسية على يد ”شارل بـالي (C. Belly) ”من خلال الأسلوبية اللغوية التعبيرية، وهو أحد تلامذة العالم الألسني السويسري الشهير فردينان دي سوسير (F.de Saussure) فاتح علم اللغة في العصر الحديث بلا منازع، حيث انطلق شارل بالي من ثنائية التفريق بين اللغة (langue) والكلام (parole)، فإن كانت اللغة نظاما اجتماعيا عند دي سوسير فإن الكلام فردي عند شارل بالي؛ وهو منطلق الحديث عن الأسلوبية الفردية الذاتية التي أشار إليها الدكتور نور الدين السّد، منوّها بظهور هذا العلم عند شارل بالي كما تحدث عن طرقه الإجرائية وآلياته والتي هي في الحقيقة آليات لسانية خالصة.
كما تطرق المحاضر إلى التوجهات الأسلوبية الأخرى؛ كالأسلوبية الأدبية والنفسية والأسلوبية البنوية والأسلوبية الإحصائية والأسلوبية التأويلية، مع تقديم كثير من الشروحات والأمثلة، كما أشار الأسلوبي نور الدين السّد إلى إفادة الأسلوبية في تأسيسها علما من عطاءات العلوم الإنسانية ومستجدات العلوم الرياضية والإحصاء، واستخدامات جهاز الحاسوب في كثير من الخطاطات التشجيرية المفيدة في حصر آلية الخطاب وتحليله وإنتاجه، فضلا عن حديثه عن نظرية الاشتهاء والتماهي بشيء من الصوفية العلمية، وكم كان بارعا في نقل الجمهور عبر مقامات عالم التصوف وقضية الحضور والغياب إلى مدارك الحقيقة العلمية بكل يقين وثبات، كما لم يخل خطابه من إرسال بعض الرسائل المشفرة في ضرورة إحياء نهضة ثقافية وعلمية في الجزائر من خلال منبر الوثبة الثقافية في بوسعادة، وهو ما نأمله في هذه المدينة الزاخرة بعلمائها ومفكريها ومبدعيها على غرار أغلب المدن الجزائرية العتيقة.
وعقب إنهاء المحاضرة ومناقشة الموضوع وإثرائه والثناء على صاحبه من قبل دكاترة وأساتذة جامعيين ومختصين وطلبة جامعيين ومهتمين أمثال السادة الأساتذة والدكاترة الطيب الباهي وعاشور توامة ولخضر حليتيم ونور الدين العبادي وسعيد حبيشي ومحمد حصباية ومصطفى عربان وكمال بن عادل وخيرة عسلي ومحمد بلال وعثمان طيباوي وكمال فيجل وغيرهم.
في الأخير؛ تمّ تكريم الأسلوبي الأستاذ نور الدين السّد من قبل مؤسس الوثبة الثقافية للإبداع الفنان الأستاذ عبد الرحمن قماط، ومدير ملحقة مكتبة المطالعة الأستاذ نجيب مزوز على المجهودات المبذولة في دفع الحراك الثقافي المتنوع لهذه المدينة العامرة.