التعصّب واستغلاق البصيرة/ بقلم: د .إبراهيم نويري ـــ كاتب وباحث جامعي

يتحدث علماء النفس والاجتماع عن التعصُّب، ويقولون: إنه صفةٌ خطيرةٌ ومذمومة..وذلك بالنظر لما يترتب عليه كصفة نفسية وحالة شعورية ثابتة غائرة من انعكاسات سلبية، قد تكون عواقبها شديدة الخطورة، بالغة السوء، سواء على مستوى الشخص المتعصِّب نفسه، أو على مستوى محيطه الاجتماعي.
إن التعصب في حقيقته يعني الجمود على فكرة واحدة، أو على رأي واحد، سبق إلى النفس والضمير بطريقة أو بأخرى، فأحدث حالة عجيبة من الاستغلاق، يصبح المتعصّب حيالها لا يقبل الجدل أو لا يقبل وجهة نظر أخرى، مهما كانت وجاهتها أو مهما بلغت منزلتها العقلية والفكرية والواقعية ··· والمتعصِّب لا يرفض عن اختيار وموازنة، بل يرفض تعبيراً عن حالة الاستغلاق التي أصابت عقله، فجعلته مشلولاً عن النظر الحصيف والتدبّر الذكي .
لذلك شَنَّ القرآن الكريم حملة على أصحاب الإيمان التقليدي الموروث، لأنه عملة غير صالحة للتداول، فهو لا يفيد صاحبه، ولا ينفع مَنْ يحيطون به، وهذه هي المسافة الحقيقية التي تفصل بين التعصُّب الممقوت وبين العقيدة الصحيحة…فالتعصب للحق الذي ثبت باليقين الجازم فضيلة ومكرمة، أما الانغلاق على الموروث المتناهي للعقل دون تمحيص حصيف، أو موازنة سديدة، فهو بلا ريب عيب ومنقصة لا تليق بمنزلة العقل الذي كرَّم الله تعالى به بني البشر·
لكن هناك منطقاً آخر أو مظهراً آخر لهذا الاستغلاق البغيض، إنه منطق الفَرْعنة المقلِّبة للحقائق، ونحن نرى صورة دقيقة لهذا المنطق في الحوار الذي دار بين نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ وبين الطاغية فرعون!! إن موسى طلب طلباً محدَّداً:{فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ}[طه:47].
لكن فرعون يرد على هذا الطلب المحدّد بقوله:{ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ}[طه:57] .. إن موسى ـــ عليه السلام ـــ يوضح قصده: لا تخرج أنت من أرضك…لكنني أنا الذي أخرج من الأرض بقومي..بيد أن العناد له منطق آخر، إنه منطق تقليب الحقائق، منطق جعل البريء متهماً، والمتهم بريئاً!!
الحق أن هذا المنطق المعوج، نجده دائماً لدى المستبدين الكارهين للحق ولحقوق الناس في كلّ زمان وفي كلّ مكان..وبما أن من أهم ميزات وخصال هؤلاء المستبدين انطماس البصيرة وتكلّس الإحساس، فإن رؤية الواقع على حقيقته الماثلة، تكون عندهم معدومة أو مضبّبة في أحسن الأحوال .
لذلك بوغت على حين غرة المخلوع زين العابدين بن علي، كما بوغت القذافي، وغيرهما من الطغاة والمستبدين، لأن أعينهم عليها غشاوة وضباب، نتيجة فساد الفطرة وموت الضمير، وكذلك لشهادة الزور حول واقع الحال التي يدلي بها الأتباع بصفة دورية منتظمة !!
فلم ينتبهوا إلا عندما ثار الشعب، وراح يقتص لواقعه وأوضاعه من قاهريه وسالبي كرامته وحريته وإنسانيته.
إن المنطق التعصبي الاستعلائي البغيض، لا يتغيِّر لدى أعداء الحرية، مهما تغير التاريخ، ومهما تبدَّلت الظروف المؤثرة في الحياة والعلاقات الإنسانية ·· إنه منطق عجيب، يجعل الحليم حيراناً، والحكيم مشدوهاً.
لكن المؤكد أن مصارع المستبدين ونهايتهم تكون دائما وخيمة مأساوية.. إلى جانب تجرّعهم مرارة ملاحقة اللعنة التاريخية الأبدية.