قــــراءة في كتاب الانصاف في فقـــه الاختـــلاف

الشيخ ثامر لطرش بن الساسي/
صدر عن منشورات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كتاب للشيخ: نور الدين رزيق عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائرية، نشر الكتاب سنة (1440هـ/2018م) في الجزائر العاصمة، وقدم له الشيخ ابن الحنفية العابدين، ومما جاء في هذا التقديم: بعد البسملة وحمد الله تعالى والصلاة على نبيه -صلى الله عليه وسلم – “لا أحسب أن وقتا من الأوقات مضى أضرّ فيه الاختلاف بين الدعاة المسلمين كهذا الوقت فقد انصرف كثير منهم عمّا ينبغي أن يصرف له جهده من حماية دينه مما يتهدده في أسسه وأصوله فضلا عن أحكامه وفروعه، وانطبعت مواقف كثير منهم بالحدّة في الكلام والفجور في الخصام، واستعمل الخلاف وسيلة لحشد الاتباع والتأسيس للحزبيات الممقوتة تحت غطاء الدعوة إلى السنة”.
أما المؤلف فقد ابتدأ بالمقدمه المشهورة المأخوذة عن السلف -رضي الله عنهم- في الكتب الدينية والدروس والخطب والوعظ والإرشاد منها:
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، يا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها. أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ثم يدخل في صلب الموضوع ومنه:
الصراعات في العالم الإسلامي
يعيش العالم الإسلامي اليوم صراعات داخلية تمزق وحدتة وتنخر جسده اختلافات مذهبية واختلافات طائفية…
ما من بقعة تسمع فيها صوت بارود ورصاص فاعلم أنها أرض مسلمةٌ، وما من دم يسيل إلا دم مسلم، هل هذا الاختلاف أمر محتوم؟ أم قدر لا مفر منه؟
روى مسلم عن ثوبان النسائي والإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :” سألت الله -عز وجل- عن ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني الثالثة، سألت الله -عز وجل- أن لا يهلك أمتي بما أهلك به الأمم الأخرى الرياح والصاعقة والرجم الغرق فأعطانيها، وسألت الله -عز وجل- ألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم فاعطانيها، وسألت الله -عز وجل- أن لا يلبس أمتي شيعا فمنعنيها”.
هل معنى هذا ألا ندعو إلى وحدة المسلمين ووحدة كلمتهم ما دام أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دعا ربه فلم يجبه؟ فأين دعاؤنا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والجواب هذا قضاء الله وقدره، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يرد القضاء إلا الدعاء”.
تصحيح نص الدعاء “اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه”
أما قول البعض اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه فهذا غير صحيح، لأن المسلم ينبغي أن يجزم بالدعاء فلا يقول العبد في دعائه اللهم اغفر لي إن شئت أو ارحمني إن شئت بل يسأل الوحدة وجمع الشمل، فالمسلم بهذا الدعاء يرد القضاء وهو الاختلاف فهو بهذا الدعاء يسعى أن يكون طرفا فيه.
تعليم الصحابة كيف يتعاملون مع هذه السنة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الصحابة كيف يتعاملون مع هذه السنة التي جعلها الله في خلقه، اختلاف الرأي، فليس كل من خالفك عدوك، إن الذي يحدث العداوة والبغضاء والولاء والبراء فيما يختلف فيه المسلمون قد ابتدع في الدين، ثم يخلص المؤلف إلى: هذا نبيكم معاشر الاخوة الكرام وضع أسسا لفقه الاختلاف في أربعة أقسام:
1- اختلاف التنوع : منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا ومثله اختلاف الأنواع في صفه الأذان، والاستقامة والاستفتاح ومحل سجود السهو وتكبيرات العيد، وقراءة سورة الفرقان التي كان عمر بن الخطاب يقرأها بصفة وسمع هشام بن حكيم بن حزام يقرؤها على خلاف قراءته فذهب معه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقرأها كل واحد عليه وقال لعمر بن الخطاب هكذا أنزلت، وقال لهشام بن حكيم هكذا أنزلت “إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤا ما تيسر منه”.
ومنها أيضا قضية المتيممين للصلاة،ثم حضر الماء، فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر، ثم أتيا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد أصبت السنة وأجرأتك صلاتك، وقال للآخر لك الأجر مرتين. ويخرج من هذا الجواب قول المؤلف: فنتعجب إن كثيرا من الأمة في هذا الاختلاف، ما أوجب اقتتال طوائف منهم وهجر بعضهم بعضا، وهذا عين المحرم.
2- اختلاف المجتهد (المصيب والمخطئ):
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع بقوله: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد”ومنه اختلاف الصحابة في فهم قول رسول الله(صلى الله عليه وسلم): “لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة فمنهم من صلاه قبل الغروب، ومنهم من صلاه آخره أي ما بعد الغروب، ثم جاءا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ” فلم ينكر لا على هذا ولا على ذلك، ويدخل فيه اختلاف الأمة، والأربع أصحاب المذاهب، وفقهاء السلف، والخلق عموما، وذلك وفق الضوابط الشرعية، وتحديد المجتهد والشروط المتوفرة فيه، فلا يجوز أن نعادي ونبغض من خالفنا في هذين النوعين من أقسام الاختلاف.
خصص هذا الجزء لنوع ثالث من أنواع الاختلاف، وهو الأخطر، فواقع الأمة اليوم ومعالجته تخضع للشرع لا للعاطفة، وتدخل فيه عدة معطيات ذاتية، وعوامل محيطية، ومصالح ينبغي أن ينتبه لها العالم والفقيه قبل إصدار الأحكام لأن آثارها على الأجيال وخيمة وها نحن نعيش آثار مواقف مرت عليها قرون نتجرع آلامها وتسيل فيها دماؤنا.
3- اختلاف الهدى والضلال:
لقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:”افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة -المسلمة- على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة”
قيل : وما هي يا رسول الله؟ قال: ” من كان على مثل ما أنا عليه أنا وأصحابي(هم الجماعة)”.
وتحديد الفرقة الناجية من هذا الحديث اختلفت فيه أقوال العلماء، فقد ذكر فيها الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام خمسة أقسام عزاها إلى قائليها – أي ذكر قائليها – إلا قولا واحدا لم يعزه.
1- السواد الأعظم: فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها واهل الشريعة العاملون بها ومن سواهم داخلون في حكمهم، لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم.
2- أئمة العلماء المجتهدون: والمقصود العلماء الأعلام من أئمة الهدي المتبعين للكتاب والسنة قال الشاطبي: “فمن خرج عن علماء الأمة مات ميتة جاهلية”.
2- الصحابة على الخصوص: فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله صلى الله عليه وسلم: “ما أنا عليه وأصحابي” فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنوه واجتهدوا فيه حجة على الاطلاق.
3- جماعة أهل الإسلام: إذا اجتمعوا على أمر وجب على بقية أهل الملل اتباعهم، قال الشاطبي: (وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني وهو يقتضي أيضا ما يقتضيه أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر).
4- أنها جماعة المسلمين: إذا اجتمعوا على أمير وجب على بقية الأمة لزومه، قال الشاطبي في بيانه: (وحاصله أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة في الأحاديث المذكورة كالخوارج ومن جرى مجراهم.
4- اختلاف الإيمان والكفر:
روى الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعُودُه فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (أسلِمْ) فنظَر إلى أبيه وهو جالسٌ عندَ رأسِه فقال له أطِعْ أبا القاسمِ قال: فأسلَم قال: فخرَج النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عندِه وهو يقولُ: (الحمدُ للهِ الَّذي أنقَذه مِن النَّار).
ولا شك أن هذه العبارة النبوية التي اختار لها النبي صلى الله عليه وسلم صيغة الأمر، لها علاقه بالخلق الكريم والمعامله الطيبة التي كان يعامل بها هذا الغلام، الذي ربما كان يتمنى ان يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأشياء كثيرة ليعبر بها عن تقديره للنبي (صلى الله عليه وسلم) وعندما وجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر (يا غلام أسلم) فكأنه يقول له هذا هو الذي أطلبه منك، يا لشفقة النبي الكريم وحرصه على هدايه غلام يهودي! فرفع الغلام عينيه إلى أبيه كأنه يستشيره وذلك كله من أثر المعاملة الطيبة، وهذا هو الذي نقول وبحت حلوقنا ونحن ننادي به: أننا أمة ذات رسالة كبيرة تقتضي منا أن نكون أنصح الناس للخلق وأرحم الناس بالناس وأن نبذل جهودنا وأوقاتنا وأموالنا من أجل هدايتهم، وأقرب الطرق وأكثرها فعالية في ذلك هو المعاملة الطيبة والمعاشرة بالمعروف، وهذه هي اللغة التي يجهلها مع الأسف بعض طلاب العلم فضلا عن العوام، ولذلك يسيئون والله إلى دينهم أيما إساءة، ويصدون عن سبيل الله وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
– الوصية بالجار: ومن هذه المعاملات، الوصية بالجار، وقد روي أن عبد الله بن عمرو بن العاص العالم الزاهد العابد لما أسن وكبر ذبح شاة فقال لأهله: هل أعطيتم منها لجارنا اليهودي؟ قالو: نعم، ثم بعد قليل أعاد السؤال: هل أعطيتم منها لجارنا اليهودي؟ قالو: نعم، ثم بعد قليل سألهم للمره الثالثة هل أعطيتم منها لجارنا اليهودي؟ قالوا : اللهم نعم.
لماذا هذا الحرص من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؟ قال: سمعت خليلي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: “ومازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”، ولنتأمل في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل أوصيكم بالجار المسلم بل كانت وصيته بالجار عموما ونفس الأمر ينطبق على نص الآية الكريمة من سورة النساء قوله تعالى: { …وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلْجَنبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ}. هل قيدت الآية الكريمة نطاق الإحسان فجعلته قاصرا على المسلمين؟ هل قالت الوالد المسلم أو الجار المسلم أو الصاحب المسلم، أو اليتيم المسلم؟ لا يا أخي، بل الآية مطلقة تشمل المسلم والكافر، والبر والفاجر، ومن تعرف ومن لا تعرف، كلهم يشرع الإحسان إليهم.
خاتمة
ثم يخرج المؤلف ويصل إلى بت هذه المعاني الإخلاقية التي يدل عليها صريح الكتاب والسنة، والتي تظل مع الأسف غائبة عند بعض المسلمين، ولهذا يسيئون كثيرا إلى دينهم باتخاذهم موقفا معاديا من الآخرين، وهم بذلك يوقعون أنفسهم في الحرج والعنت والمشقة فاعتبروا يا أولي الأبصار وكان الله في عونكم.
المراجع:
– كتاب الانصاف في فقه الاختلاف من مطبوعات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
– جريدة الشروق: عدد 6645 بتاريخ 22/11/2020.
– جريدة الشروق: عدد 6482 بتاريخ 10/05/2020.
– جريدة البصائر: عدد 1045 بتاريخ (03/09) جانفي 2021م.
– جريدة البصائر: عدد 1048 بتاريخ (24/30)جانفي 2021م.