أعلام

لـمحـــة من تاريـخ وســـيرة : الشيخ محمد بن السنـوسي بن عبـد الرحمن (1873هـ/1959م)

أ. محمد بسكر/

شخصية علمية جمعت سعة الاطلاع مع عموم النّفع والنّصح للأمة، ينحدر من حاضرة الديس الشهيرة بأدبائها وشعرائها وأفاضلها، ولد بها حوالي سنة 1873م، وفي ربوعها نشأ وترعرع، وفي صميم بيوتاتها أخذ تربيته علمًا ومَسلكًا، فوالده الشيخ السعيد بن عبد الرّحمن شقيق الشيخ محمّد بن عبد الرّحمن، رجلٌ خَير، مجبول على الفضل والصّلاح، غالب حاله السّكينة والتواضع وإتيان القناعة، قال الأديب محمد بن عبد الحق في وصف شمائله: «وكان (رحمه الله) من رجال الخير محبا للعلماء والصالحين، شفوقا على الفقراء والمساكين يؤثرهم ويتقرب إليهم، وصولًا لرحمه، خاملًا متقشفًا، يكره الفخفخة والتبجح، يأمر بالمعروف ويأتيه، وينهى عن المنكر ويجتنبه، حسن العقيدة، قارئا لكتاب الله، محافظا على حدوده، صواما قواما، متفقها ورعا، بشوشا في وجوه الخلق من يعرفه ومن لا يعرفه، يتلقى الضيوف بالترحاب والإكرام، لين الجانب متواضعا، الغني والفقير عنده سواء لا يؤثر غنيا لغناه، ولا يحتقر فقيرا لفقره، لا تأخذه في الله لومة لائم».

فمن هذا الأصلِ والأَرومةِ نَبَتَ الشيخ ابن السنوسي، وفي رعاية هذه العائلة الكريمة تفتّقت مواهبه، وصُقل طبعه وأَديمه، فَشغف قلبُه بحبّ العلم وأهله، وشجّعه محيطه حيث ربوع العلم والأدب على الاجتهاد والمثابرة، فحفظ القرآن الكريم في حَداثة سنه، واستوعب معظم المتون المتداولة، كمختصر خليل، وألفية ابن مالك، والرحبية، وملحة الإعراب، وغيرها من المتون التي اعتاد طلبة العلم حفظها، كان من شيوخه في هذه الفترة عمه علي بن عبد الرحمن، وإبراهيم بن المسعود حفظ على يديه القرآن وأخذ عنه أحكام الترتيل، ومحمد بن الصديق بن سليمان، ثم لازم الشيخ محمّد بن عبد الرّحمن بعد عودته من زاوية الشيخ سعيد بن أبي داود فكان قارئه الخاص، إذ مكث الشيخ الديسي في مسقط رأسه أربع سنوات قبل انتقاله إلى زاوية الهامل، وكان ابن السنوسي هو الذي يسرد على مسمعه المتون والنصوص.
-التحق الشيخ ابن السنوسي بزاوية الهامل، ودرس فيها مدة طويلة أتاحت له التعرّف على الشخصيات الأدبية والعلمية التي كانت تتردد على الزاوية والاستفادة منها، وعاصر مدة مكثه فيها ثلاثة من كبار علمائها، وهم: الشيخ محمد بن عبد الرحمن، والشيخ ومحمد بن الحاج محمد، وأخيه الشيخ الحاج المختار، والثلاثة أخذوا الفقه عن الشيخ محمد بن أبي القاسم.
فأخذ عن عمّه الديسي علوم اللّغة من نحو وبلاغة وبيان، وسمع دروسه في شرح الأجرومية، والأزهرية، وقطر الندى، وشذور الذهب، وألفية بن مالك، وملحة الإعراب للحريري، ورسالة البيان للشيخ الدردير والجوهر المكنون، كل هذه المصنفات سمعها منه بحضرة مؤسس الزاوية.
كما درس مسائل التصوف والفقه والتفسير وغيرها من العلوم، عن الشيخ عاشور الخنقي، والمكي بن مصطفى بن عزوز، والعربي بن أبي داود، ومحمد الصغير بن المختار بن عبد الرحمن، و عبد القادر الدكالي، وأحمد بن سليمان قاضي الخروب وغيرهم.
نشاطه الاجتماعي والعلمي
كان (رحمه الله) حريصا على التّعلّم مجتهدا في تحصيل أنواع العلوم، حتى أثمر جهده فغدا يشار إليه بالبنان بين فقهاء البلدة وما جاورها، واكتسب بسبب علاقاته الواسعة مع العلماء والأعيان خبرة في المجال الاجتماعي، وحنكة سياسية، حتى صار يشار إليه في بلدة الديس وبوسعادة والهامل.
عُرف بصرامته الشديدة ومواقفه الحاسمة فيما يراه يخدم الدّين والمجتمع، وأجمل أوصافه أنّه سَعَّاءٌ إلى كلّ مُوجبة يرى فيها ما يحقق مصلحة مجتمعه وخاصة جماعة بلدته الديس، ظهر حرصه على جمع كلمتهم، وإبعاد كلّ شائنة تفرق جمعهم ، ففي رسالة رد فيها على أحمد بوداود أبدى فيها تخوفه من انحلال عقد الجماعة « بسبب التحزب والتعصب وإلقاء الوساوس والدسائس»، كما سعى إلى إعانة ابن عمه الشيخ بوداود في طبع رسائل والده، وراسل أهل الفضل من قريته بضرورة تقديم يد العون حتى تطبع تآليف شيخه، لكون فائدتها عامة لأهل الديس وغيرهم، فجاء في رسالته: « وبعد فالذي أعرضه على مسامعكم الشريفة أنّ الأخ الفاضل السّيد أحمد بن بوداود بن الشيخ سيدي محمد بن عبد الرحمن شرع في طبع كتاب جليل من تأليف والده، وقصرت ذات يده في إتمامه، وها هو واقف بأعتاب ذوي المكارم والنجادة والمروءة..»، ويختم خطابه بأنه يرجو منهم الإعانة على إتمام طبع هذا الكتاب الجليل الذي فيه نشر معالم الدّين، ومشاركة الشيخ بوداود تحمل هذا العبء الثقيل.

تولى الحاج ابن السنوسي بعد تخرجه التدريس بزاوية الهامل مدة طويلة، فحرص على تعليم طلبته ما حصّله عن مشايخه وخاصّة مختصر خليل وعلوم اللّغة، أمّا المختصر فقد سبر غوره وكشف العويص من ألفاظه، وختم تدريسه بالزاوية عدة مرات، أمّا اللّغة العربية فهي ميدانه الفسيح الذي جال فيه وأَسهب، وكانت دروسه لا تخلو من إسداء الّنصح للطلبة وخاصة الأشراف منهم، فهو يرى أنّ «الصّفة القاسمية لا تكون ولا تظهر إلّا على من له آثار مخلدة في العلم»، لأنّه شرف الأرواح الباقية، وكثيرا ما يلقن تلامذته آداب التعلم، فيقول: «فيجب عليكم الأدب مع العلم ومشايخه وكتب العلم، فقد قالوا: لا يضرب الكتاب لنفض ما تعلق به من الغبار بل يمسح بالخرقة، ثم الأدب في حضور الدرس يكون على طهارة، غير لابس لنعله كما يفعله المعلمون العصريون، يعلمون الناس بنعالهم هم وتلامذتهم ففي ذلك إهانة للعلم، ثم عليكم بالحرص والاجتهاد وترك الكسل فمن جدّ وجد».
لم يقتصر نشاطه العلمي على التعليم بالزاوية، بل وسّع دائرة تدريسه لتشمل مدينة بوسعادة، فعندما أسّس الشيخ الحاج خليفة محمد بن الزروق مدرسة الفتح سنة 1943م، شارك ضمن هيئة التدريس، فكان يدرس طلبة الطور الثاني، وفي مطلع الخمسينيات من القرن الماضي لمّا تمّ تدشين جامع بلحطاب بمدينة ببوسعادة التزم التدريس فيه، واتّخذ من غرفة موجودة في الطابق العلوي مكان إقامة وراحة فترة تواجده ببوسعادة، كانت معظم دروسه في اللغة والنحو وخاصة الأجرومية وملحة الإعراب، إضافة إلى شرح متن ابن عاشر ورسالة أبي زيد القيرواني.
إنّ سمات الشيخ ابن السنوسي الشخصية، من أنفةٍ وجدٍ ونشاطٍ وأمانةٍ، رفعت من قَدره وسمت بمقامه، لينيط به الشيخ مصطفى القاسمي إضافة إلى منصب الأُستَاذية عملا إداريا آخر، وهو إدارة شؤون الزّاوية الخارجية، وهي وظيفة تحتاج إلى رجل يتسم بمعرفة واقع محيطه الاجتماعي والثقافي والسياسي، وسعة الثقافة، وحسن المحاضرة، ولإخلاصه وصدق طويته «كُلّف – أيضا- بجرد أوقاف الزّاوية، وكتابة الرسائل، والرّد على الإخوان والمريدين في الفتاوى والنوازل التي كانت ترد إلى الزاوية».
توسعت دائرة معارفه الأدبية والاجتماعية بسبب المهام الموكلة إليه، فربطته علاقات طيبة مع شخصيات علمية كثيرة، كالشيخ عبد الحي الكتاني وأحمد بن المأمون البلغيثي، والمكي بن عزوز نزيل الاستانة، وعلي بن شعيب قاضي تلمسان، والسعيد بن محمد بن أمزيان، والسّيد ردوسي قدور بن مراد، صاحب المطبعة الثعالبية الشهيرة بنشر الكثير من المؤلفات العربية، والأمير خالد بن الهاشمي، وعبد الله بلحاج بن سالم، وعبد الرحمن بن البيض، والحاج خليفة محمد بن الزروق، وعبد القادر بن محمد بسكر..وغيرهم.
تلامذته
تتلمذ على يده جمع غفير من طلبة العلم منهم: خليل القاسمي، وسعيد حرزلي، وأحمد بنعزوز القاسمي، وإبراهيم مرخوف، والسايح خضراوي، وعبد القادر الدلاوي، وبلقاسم بن شميسة، وعبد القادر بوهالي، وقدور دحيري ومحمد شكيمي…..وغيرهم.
توفي رحمه الله سنة 1959م، عن عمر يقارب السبعين، وترك بعض الرسائل والمؤلفات منها:
1: ترجمة الشّيخ محمد بن محمد بن عبد الرحمن الديسي.
2: القصيدة الدندانية في الرّد على الطائفة الوهابية.
3: رسالة فقهية جمع فيها آراء فقهاء عصره في حكم زكاة النقود.
4: المدد في أحوال وأخبار الجدّ: في التعريف بنسب وجُذُوم أولاد سيدي إبراهيم.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com